لكن أليس ربط مجازر فلسطين بالفكر الأنواري الغربي مجرّد تبسيط وتقزيم لا يرتكز على أسُس عقلية جادة تتغافل خصوصية الوضع السياسي الفلسطيني المركّب والمعقّد الذي يتداخل فيه عدة جوانب منها الجانب السياسي الاقتصادي والثقافي الديني؟ أليست عملية الربط بالأساس هي خلط بين الغرب السياسي والغرب الثقافي؟.
يجوز لنا هنا أن نشبّه هذه الردة الثقافية على الحداثة الغربية التي خلقتها أحداث الحرب المرعبة على فلسطين عند عدد من النخب المثقفة العربية بردة جيل المشككين من مفكّري الغرب إبان الأزمنة السياسية العالمية لمنتصف القرن العشرين، إثر صعود الحركات الشمولية والنازية والفاشية للحكم، مفكّرين عاشوا تجربة الحرب والتهجير والتقتيل من طرف النازية، نذكر هنا نموذج لتلميذ هايدغر المفكّر اليهودي الألماني الهارب من النازية وصاحب كتاب "التاريخ والخلاص"، ردة جعلته يربط الحداثة ومفاهيمها بالإرث اليهودي المسيحي، ساحبًا بشكل كلّي أصالة وكذا جدة الأزمنة الحديثة ما دامت لم تحقّق ما كان مأمولًا ومنتظرًا، أي اضمحلال/القضاء على الشر وتفوّق الخير بالنهاية، إلى جانب كارل شميث الذي اعتبر السياسة مجرّد علمنة للإرث الثيولوجي، لكن ما يُميّز هذه الردة فعاليتها الفكرية إذ راكمت عددًا من الأطروحات المتميّزة التي أعادت تقييم الأزمنة الحديثة وخلقت بالمقابل أفقًا ما بعد حداثي لا زال يمارس تأثيره في السياق الفكري المعاصر.
تفوّق الغرب في قيادة الدفة الإعلامية ساهم في توجيه الوعي الغربي نحو غايات سياسية لا تخضع للقيم الأخلاقية
نعاين اليوم الأمر عينه عند بعض نخبنا الذين سارعوا لارتداء جبة الاستغراب الافتراضي القائم على تخليهم عن الفكر الحداثي، إذ اعتبروه مجرّد خدعة غربية، مختزلين الأزمنة الحديثة في كلّيتها بما يجري من ظلم وتقتيل وتهجير وتطهير في فلسطين، فهل يستقيم هذا الربط أم إنه مجرّد رد فعل أمام هول الحدث وعجز عن الفعل؟ فهل كنا فعلًا نُمجّد فكرًا أنواريًا مزيّفًا؟ لما نتفنّن في لعب دور الضحية المخدوعة من طرف قوى غربية؟ ألا نتحمّل جزءًا من المسؤولية فيما يجري؟
إنها عملية اختزالية تبرهن على قصور في استيعاب الأمر أو تغليب كفة الجانب الانفعالي غير القادر على مواكبة الأمر بشكل فاعل، إذ ينبغي الفصل بين الغرب السياسي والغرب الثقافي، لأنّ عملية لمّ الشمل الغربي في سلّة الكلّ الإيديولوجي توضح عجزًا هوياتيًا في مقارعة الراهن، راهن يبرز تفوّق الغرب في قيادة الدفة الإعلامية والسياسية وكذا الاقتصادية، مما ساهم في توجيه الوعي الغربي نحو غايات سياسية لا تخضع لمعايير القيم الأخلاقية كما نتأمّلها في وعينا العاجز عن المشاركة الفاعلة، ربما لأننا نتقمص دور الضحية المستهدَفة التي يجب على الآخر المتفوّق بذل مجهود للكشف عن مظلوميّتها.
إننا في حرب تُستباح فيها كل الأشياء... والطهرانية الأخلاقية في صورتها الحداثية لا يمثّلها لا الغرب ولا الشرق
نلمس هنا نوعًا من الفكر المتكئ على اللافعل، على خلاف سياق دور الضحية الذي تلعبه إسرائيل، مستغلةً نوستالجيا الهولوكوست التي تعرضت لها، فالأولى ترتكن لركن المظلومية كأنه أمر معروف وبديهي ولا يحتاج لمجهود لتعريفه؛ أما الثاني، فإنه يخلق مظلوميته ويعمل بشتى الوسائل على تسويقها فنصير أمام قلب للمعادلة، ما يجب التنبيه عليه أنّ سيطرة القوى الغربية هي سيطرة مُمَأسسة ومُهيكلة وعَمَلية، إذ تخصّص القوى الغربية بالأخص إسرائيل مثلًا عددًا من الهيئات الخاصة المتخصصة والمتتبعة على الدوام النشاط الافتراضي قصد المساهمة في توجيهه، إننا في حرب حيث تُستباح فيها كل الأشياء أوّلها الحرب الإعلامية التي لا تخضع بالضرورة لمبدأ القيم الأخلاقية، بل لمبدأ الغاية السياسية طبعًا التي قد يكون وراءها عدة محركات، دينية وثقافية واقتصادية.
إنّ الغرب لا يُمثّل القيم الأخلاقية التي بشّر بها خلال الأزمنة الحديثة لنحاكمه بها، القيم تظل دومًا في إطار ما ينبغي أن يكون، ما يجب أن تسمو وتبلغه الانسانية، أما مطلب الطهرانية الأخلاقية في صورتها الحداثية فلا يمثّلها لا الغرب ولا الشرق، إذ كلاهما يرفعان لافتة حقوق الإنسان، لكن واقع الأمر يخضع لأمور أكثر تعقيدًا.
(خاص "عروبة 22")