من ذلك ظهور الطبقة البورجوازية بحسبانها قوة اجتماعية كان لها تأثير فاعل في مختلف مناحي الوجود البشري في ذلك الغرب. ومن ذلك ظهور نمط جديد من العلاقات بين البشر، تبلور عنه فكر سياسي جديد مداره المواطن وإسعاده ومطلبه تأسيس دولة التعاقد الاجتماعي. ومن تلك العوامل وقوع تحولات كيفية هائلة في المعارف الإنسانية وفي طرائق النظر إلى الطبيعة وإلى المجتمع (النظرية الكوبرنيكية في الفلك، انبثاق الفيزياء، والكيمياء والبيولوجيا بحسبانها علومًا جديدة يستقل فيها كل علم بموضوع وقوانينه ومنهجه، الوصول إلى اكتشافات جديدة تتعلق بجسم الإنسان، وأخرى بالطبيعة حاسمة...)، وتحولات كيفيات أخرى في مستوى الفكر(الفكر الفلسفي، الفكر السياسي، تبلور علوم جديدة تتصل بالإنسان، الاقتصاد، الاجتماع، علم النفس، الأنثروبولوجيا...).
كل هذه عوامل قوية فاعلة، وكل ما ذكر وجيه صحيح. ودارسونا العرب، إجمالًا، أجادوا في ذكر ذلك وفي شرحه. بيد أنّ عاملًا أساسيًا فاعلًا يتم إغفاله في كتابات وأحاديث دارسينا ومفكرينا العرب، في أغلب ما يكتبون ويتحدثون به. نقصد به عامل تنامي النسب المئوية للأشخاص الدين يحسنون القراءة والكتابة وتراجع نسب الأمّيين في الغرب الأوروبي.
التعليم العمومي شرط ضروري لبلوغ التقّدم والوسيلة التي تجعل المساواة في الحقوق أمرًا ممكنًا
يذكر المؤرخ الفرنسي جان بيير ريو أنّ "الثورة الصناعية قد حدثت في البلاد التي تحقق فيها انخفاض الأمية عند الراشدين على نحو يثير الانتباه حقًا (...) منذ مطلع القرن الثامن عشر لم يعد عدد الراشدين الأمّيين في بريطانيا يتجاوز 60 في المائة وسيغدو الشأن في فرنسا كذلك في ثمانينات القرن في حين أنّ دولًا أوروبية عديدة لم تتمكن من إشاعة التعليم الجماهيري إلا في نهاية القرن التاسع عشر (إيطاليا، إسبانيا، روسيا)". ونحسب أنّ حديث هذا المؤرخ يغني عن مزيد توضيح لما نريد قوله. وأما ذهول دارسينا ومفكرينا عن هذا الأمر فتلك مسألة نرجئ القول فيها إلى حديث لاحق.
نود، سعيًا وراء مزيد إبراز للفكرة التي نعرض لها أن نذكر أيضًا أنّ كوندورسي، المفكر ورجل السياسة الفرنسي الأشهر (1743-1794)، نشر في السنوات القليلة التي أعقبت قيام الثورة الفرنسية كتابًا تحت عنوان "خمس مذكرات حول التعليم العمومي" (Cinq mémoires sur l’instruction publique). نقرأ في الجملة الأولى من المذكرة الأولى ما يلي: "التعليم العمومي واجب على المجتمع تجاه المواطنين". يرتبط ذكر كوندرسي في الأذهان بفكر الثورة الفرنسية وقادتها. بيد أنّ ما يستوجب الانتباه أيضًا هو أنّ هذا المفكر الفرنسي، الذي يرتبط اسمه في المعتاد بأحد أكثر المفاهيم تداولًا في عصر الأنوار وهو مفهوم التقدّم، يجعل من التعليم العمومي شرطًا ضروريًا وكافيًا - كما يقول المناطقة - والسبيل الحقيقي لبلوغ التقّدم وإشاعة فكر الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية.
وظيفة الفكر تكمن في الارتفاع وفي حمل الناس على التطلّع إلى واقع أكثر سموًا
لا يتسع المجال لبسط القول في الأفكار التي يعرض لها مفكر الأنوار الشهير وإنما نكتفي بإيراد فكرتين اثنتين في الكتاب المشار إليه. الأولى هي أنّ "التعليم العمومي هو الوسيلة التي تجعل المساواة في الحقوق أمرًا ممكنًا". والثانية هي أنّ التعليم العمومي (باعتباره شرطًا وتوطئة لإعداد المواطن في دولة التعاقد الاجتماعي) "لا يستهدف جعل الناس قادرين على الإعجاب بالتشريع القائم بل إنّ مبتغاه إعدادهم حتى يكونوا قادرين على تقدير ذلك التشريع حق قدره وكذا إصلاحه متى اقتضى الأمر ذلك".
ربما اعترض علينا بأنّ حديثًا من هذا القبيل يدخل في باب المثاليات التي لا تمت إلى الواقع المعيش بصلة. ولسنا نملك إلا التنبيه إلى أنّ وظيفة الفكر تكمن في الارتفاع وفي حمل الناس على التطلّع إلى واقع أكثر سموًا (مع الثقة في العقل البشري وفي الإنسان وقدرته على التغيير). ذلك كان حال مفكري عصر الأنوار، وكوندرسي أحدهم وزاد عليهم أنه ارتبط بالمشاركة الفعلية في التغيير. والكتاب المذكور أحد النصوص المؤسّسة للفكر الحداثي، وفي حدود معرفتي، لا أعتقد أنه مترجم إلى اللغة العربية. عسى الله أن يقيض للقارئ العربي من يقوم بهذا العمل الجليل.
(خاص "عروبة 22")