تقدير موقف

"الحصاد الإيراني".. بعد دمار غزّة!

منذ اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى"، كثر الكلام عن الدور الإيراني في هذه العملية غير المسبوقة في النزاع العربي الإسرائيلي، وجاءت من خارج الحروب التقليدية التي شهدتها المنطقة منذ العام 1948 وآخرها حرب سنة 2006 في لبنان.

إتهام إيران بأنها وراء العملية غير مثبت ولا أدلة ملموسة عليه يمكن الركون إليها، وهذا ما كرّرته الولايات المتحدة الخصم الرئيس لإيران أكثر من مرّة، وما نفته إيران أيضًا بلسان قادتها ومسؤوليها.

عدم التورّط الإيراني المباشر لا يعني أنّ إيران منزّهة كليًا عن هذه العملية الصعبة والجريئة والمعقّدة، والتي احتاجت إلى خبرات وتقنيات يصعب أن تتوفر لـ"حماس" من دون دعم وإسناد من دول قادرة ومهيّأة لمثل هذه العمليات. إلى هذا الجانب اللوجيستي، هناك جوانب او عوامل اخرى ترجح عدم استبعاد دور لإيران في هذا الإختراق للأمن الإسرائيلي، سيما أنه سبق لها أن حذّرت إسرائيل أكثر من مرّة بالرد على عملياتها في الداخل الإيراني، من إغتيال العلماء والشخصيات إلى سرقة أرشيف معلومات له أهمية كبرى وتفجير محطات أو مقرات تكرّرت بمناسة أو دون مناسبة. أما الرد على إغتيال القائد الإيراني الأسطوري قاسم سليماني في عملية أميركية وتوعّد إيران بالرد، فليس مستغربًا أن تكون عملية 7 أكتوبر في سياقه وبهدف إبعاد الاميركيين عن المنطقة وتسعير الغضب العربي الرسمي والشعبي ضد واشنطن بسبب دعمها الأعمى لإسرائيل، كما توعّدت طهران.

انخراط حلفاء إيران في المنطقة بشكل علني ومباشر ينزع عنها عباءة البراءة مما جرى ويجري في غزّة

في الوقائع، لم تكن الأدوار الإيرانية في المنطقة يومًا مباشرة، بل جرت العادة على أن تنفّذ إيران أجندتها وتصل إلى أهدافها بواسطة الحلفاء في البيئات المحلية المؤيّدة لها، وهو ما أكدته وظهّرته أكثر الحرب في غزّة. فهل يمكن أن نعتبر أنّ ما يقوم به الحوثيون في باب المندب والبحر الأحمر مستقل عن الإرادة الإيرانية؟ يصعب التصديق أنّ الإستيلاء على السفن بهذه الوتيرة وإطلاق المسيّرات واستفزاز الحشد العسكري البحري الغربي وإطلاق الصواريخ الباليستية بإتجاه إيلات في إسرائيل هو صناعة يمنية حوثية صافية. وهل الحراك الحوثي بحجة دعم "حماس" هو غير منسّق مع تهديدات الميليشيات العراقية الحليفة لإيران بالتدخل أيضًا في حرب غزّة عبر استهداف المواقع الأميركية في العراق؟ وكيف نقرأ الحرب "المنضبطة" التي يخوضها "حزب الله" من جنوب لبنان والتي وصفها بحرب إسناد لغزّة. إنّ انخراط حلفاء إيران في المنطقة بشكل علني ومباشر ولو بحدود وانضباط، ينزع عن إيران عباءة البراءة مما جرى ويجري في غزّة.

في السياسة حصدت إيران الكثير من الحرب. فقد عطّلت أو أخّرت التقارب السعودي -الإسرائيلي والذي كاد قبيل الحرب أن يحتلّ العناوين الأولى للأحداث في المنطقة، أما توسيع الإتفاقات الإبراهيمية أو تمكينها فقد اهتزّ كذلك جراء الحرب وجُمّد الحديث عن الاتفاقات الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن وهي نتائج عزيزة ومطلوبة من إيران التي هاجمت هذا المسار علنًا على الرغم من توقيعها إتفاق المصالحة مع الرياض برعاية صينية.

من جهة أخرى ومن المنظور الإيراني، أعادت حرب غزّة الوهج الى الموضوع الفلسطيني كقضية العرب والمسلمين الأولى، وهي لطهران بمثابة الوقود الضروري لتحفيز الصراع بين معسكري السلام والممانعة في المنطقة بما يتجاوز فلسطين والفلسطينيين، عبر الاستفادة من المآسي التي تحصل لتوسيع رقعة القوى المعادية للغرب بعامة، إضافةً إلى زعزعة كل سياسات الاعتدال العربي الهادفة إلى السلام وتجفيف النزاعات والتنمية الاقتصادية والانفتاح والاسترخاء في العلاقات الدولية. وفكّت كذلك العزلة والتهميش عن إيران، ما يأهّلها للعب دور رئيس بعد استعادة محور الممانعة السيطرة والغلبة والهيمنة في الإقليم، ومن شأن ذلك تدعيم علاقاتها القوية بموسكو وبيجينغ ويخدم أهدافهم المشتركة بإضعاف الوجود والدور الأميركي في المنطقة.

كل ما سبق يصب لصالح سعي طهران إلى نشر مبادئ وعقيدة وأفكار النظام عبر تغيير أنماط العيش وتديين السياسة والاجتماع وشؤون الحياة كافة.

أخفقت إيران في إخراج الأميركيين من المنطقة، بل حدث العكس تمامًا إذ أدّت الحرب في غزّة إلى تعزيز الوجود الأميركي فيها

في المقابل، منيت "حماس"، وهي حليف أساسي لطهران، بخسائر موجعة إن لم تنهِها عسكريًا فستنهكها مدة طويلة، وأفقدتها أيضًا دورها السياسي إثر مقاطعة المجتمع الدولي لها.

كذلك أخفقت إيران في إخراج الأميركيين من المنطقة، بل حدث العكس تمامًا إذ أدّت الحرب في غزّة إلى تعزيز الوجود الأميركي فيها، لا سيما العسكري. لا شكّ أن إيران تأخذ، وعلى محمل الجد، الحشد العسكري الأميركي في شرق المتوسط والخليج ودلالاته، مع نشر مجموعتين من حاملات الطائرات وما يرافقها، وزيادة قدراتها الدفاعية الصاروخية في المنطقة بحجة المساعدة في حماية القوات المنتشرة. ولعل إيران تعي أنّ هذا الحشد لا يهدف إلى حماية إسرائيل ودعمها فقط، بل يتعداه إلى ردعها من التدخل في هذه الحرب عبر فتح جبهات جديدة، وقد تلقت رسائل مباشرة وبالواسطة بهذا الشأن.

إلى الوجود العسكري، فعّلت حرب غزّة الديبلوماسية الأميركية الناعمة ودعمتها بالقوة الخشنة، وهي من الحالات النادرة منذ عقود التي تعتمد فيها واشنطن هذا الأسلوب في السياسة الخارجية، حتى باتت الأنظار اليوم متجهة إلى ما سوف يصدر عن الإدارة الأميركية من مواقف للجم إسرائيل ومبادرات لحل دائم ومستدام للنزاع.

في السياق نفسه، لعل كل ما حصدته إيران من حرب غزّة قد يتبدّد إذا ما قُدّر للولايات المتحدة ودول الإعتدال العربي إجتراع تسوية واقعية وعادلة للنزاع، تعيد للفلسطينيين بعضًا من حقوقهم السليبة وتنهي الصراع العربي - الإسرائيلي، ما ينزع ورقة فلسطين والفلسطينيين من يد إيران وحلفائها.

وقائع جديدة ما يزال معظمها مجهول المعالم، ستحدّد موازين القوى في الإقليم

ميزان الربح والخسارة لا بد أن يأخذ بالاعتبار الغاية المفترض تحقيقها من "طوفان الأقصى" مقابل الثمن الباهظ الذي دُفع حتى الآن من عشرات آلاف الضحايا البريئة والمصابين والتدمير الكامل لغزّة، سواء كانت اقتلاع إسرائيل أو السيطرة والقضاء على السلطة الفلسطينية أو تخريب السلام بين العرب وإسرائيل، أو حجز إيران مقعدًا لها بصفتها لاعبًا رئيسًا على طاولة المفاوضات، أو كلّها مجتمعة؟.

المحصلة بعد ثلاثة أشهر من الموت والدمار والمآسي أنه لا مفر لإسرائيل وقوى الممانعة معًا من التسليم بالحل السياسي، فإيران والممانعة عاجزان عن اقتلاع إسرائيل وطرد اليهود إلى البحر، وإسرائيل لن تتمكن من هضم حقوق الفلسطينيين التي لا تُلغى بالمال والأعمال، ولا بالقوة المفرطة والطغيان والقمع.

الحرب اللعينة هذه شقت الطريق أمام وقائع جديدة ما يزال معظمها مجهول المعالم، ولكن لا بد من احتسابها لأنها ستحدّد موازين القوى في الإقليم بين دعاة السلم ودعاة الحرب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن