بصمات

أين نحن من مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

في منشور على منصّة التواصل الاجتماعي "إكس"، أعلن إيلون ماسك يوم الاثنين 29 يناير/كانون الثاني الماضي، أنّ النتائج الأولية لأول عملية زرع شريحة دماغية قد أظهرت زيادة الخلايا العصبية على نحو واعد، وأنّ المريض يتعافي بشكل جيّد، هذه الشريحة التي تحمل اسم "تيليباثي" ستساعد بالبداية الأشخاص المصابين بالشلل على التحكّم بالأجهزة الإلكترونية عن طريق التفكير، حيث ستعمل الأقطاب الكهربائية في شريحة "نيورالينك" على قراءة الإشارات التي تبعثها الخلايا العصبية في الدماغ البشري وتُترجمها إلى تحكّم وظيفي حركي يخصّ بالبداية بعض الأجهزة الالكترونية أو بعض وظائف الجسم.

أين نحن من مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

وأضاف ماسك: "تخيّل لو كان ستيفن هوكينغ قادرًا على التواصل بشكل أسرع من الكاتب السريع أو البائع بالمزاد. هذا هو الهدف". وجب الاشارة هنا إلى أنّ فعل "التخيّل" الذي أورده ماسك في تصريحه على سبيل التمني هو أصل الحكاية ومحرّكها الأساس، فما كان يبدو في منتصف العشرين ضربًا من الخيال العلمي والذي ألهم العديد من المخرجين لإبداع أفلام تتناول ممكنات مسيرة الذكاء الاصطناعي، صار اليوم في جزء منه واقعًا، فأين نحن (العرب) من هذه المسيرة التي يبدو أنّها تُحقق أبعد مما نتخيّل؟.

عودة بسيطة لتاريخ تبلور فكرة الذكاء الاصطناعي، تفيد أنّها تعكس مسارًا زمنيًا متسارعًا بشكل لافت، إذ ارتبط ظهور المفهوم بـ"آلان تورنغ" في منتصف القرن العشرين من خلال دراسته التي تدور حول إمكانية قيام الآلة بالتفكير، وهي ورقة بحثية حملت عنوان "آلات الحوسبة والذكاء"، لتتسارع الأبحاث فيما بعد بشكل متواتر وكثيف.

ما كان خيالًا علميًا في المعجم السينمائي الغربي يتجه لكي يصبح بدايةً لواقع مستقبلي

خلال ثمانينات القرن العشرين، اتسع مجال هذا الاهتمام عبر تعزيز الاستثمار والتمويل المؤسّساتي، ونشير هنا إلى أنّ التوجه المؤسّساتي في هذا المضمار بالغ الأهمية في تفسير هذا التسارع الزمني الخاص على سبيل المثال بوتيرة الأبحاث والدراسات، أو الخاص بالتجارب التي تهمّ أبحاث واجهة الدماغ والآلة أو واجهة الدماغ والحاسوب.

في مطلع القرن العشرين صار الذكاء الاصطناعي قادرًا على تنفيذ عدة مهام بشرية منها: أداء وإنشاء وكذا اتخاذ بعض القرارات والتعلّم بشكل ذاتي، وهي مهام كانت سابقًا كما هو معلوم، مقتصرة على العنصر البشري.

نلاحظ هنا أنّ هذا التسارع الزمني الذي تعبّر عنه نتائج الذكاء الاصطناعي يعكس تجربة زمنية لأفق مستقبلي مفتوح بشكل كامل على الخيال المُعقلن أكثر منه على الواقع المعطى، ومنه يمكن القول إنّ الانسان لم يعد ينفرد بالعقل فقط بل أيضًا بالخيال، فمَلَكَة الخيال هي التي تعيد بناء كيفية ومعنى الحياة البشرية، إنّها بمثابة محرّك المسار الإبداعي البشري، فما كان خيالًا علميًا في المعجم السينمائي الغربي، يتجه لكي يصبح بدايةً لواقع مستقبلي.

يعكس التناول الغربي للإنتاج السينمائي الخاص بالخيال العلمي كما عمل لعقود على تقديمه، طبيعة الذهن الغربي الذي يتطلع لمستقبل هو من يحدّد توجهاته. إنّه إنتاج يُترجم الأفق المستقبلي لحاضره، وهنا يكون مفهوم المستقبل يحمل معنى أبعد من المأمول أو المتوقع، كأنّه يرسم بشكل متميّز نمطًا وجوديًا مختلفًا يخلق من خلاله الإنسان مرادفه الآلي.

إنّ الذهن العلمي الغربي، كان إنتاجًا فنيًا أو توجّهًا مؤسّساتيًا، يتعامل مع المستقبل كفسحة ممتدة لتحقق تحديات حاضره، كأنّنا أمام مستقبل يسحب بساط الحاضر نحو أبعاد وممكنات أخرى للعيش، فيُصبح المستقبل العلمي هو من يتحكّم في دفة المسار التاريخي البشري، الأمر الذي يجعل الغرب يخلق عتبة تاريخية أخرى تُبعدنا من جديد عن ركب التقدّم، فما تأثير ذلك على المسار العربي؟.

عودة لإنتاجنا السينمائي، وعلى سبيل المثال لا المقارنة، نجد أنّ أغلب الإنتاجات العربية لا تفسح مجالًا للخيال المؤسَّس على الأبحاث العلمية، حيث لم نفرض إنتاجًا سينمائيًا يوازي الطموح العلمي العالمي، بل خلقنا إنتاجًا فنيًا يُعبّر عن محاكاة لواقعنا دون القدرة على التخلّص من هذا الواقع أو على الأقل دون أن نتمكن من خلق، بالموازاة معه، أُفق مستقبلي يُعيد إنتاجه بصورة مغايرة عمّا هو كائن.

يغيب الاستثمار المؤسساتي العلمي الوازن سواءً في الذكاء الاصطناعي أو البرمجيات في جلّ الدول العربية

إذ يبدو أنّ خيالنا يعبّر عنا، ففي إطار مواكبة المسار الغربي الذي يتجه بخطى سريعة نحو محطات أخرى مختلفة، ننشغل بتحريك عربتنا المثقلة بالانتظارات الماضية والحاضرة، الأمر الذي يجعلنا ننغمس بشكل ما بالثقل الذي يفرضه المسار التاريخي الغربي على الذهن النهضوي العربي، ما يدفعنا للقول إنّ هذا التصوّر يحصر مفهوم المستقبل في الوعي العربي بما هو دلالة على اللحاق بالركب الحداثي والتخلّص من وزر التخلّف، وليس إمكانًا للمشاركة والتأثير بما يتيحه الحاضر العلمي، لهذا يغيب الاستثمار المؤسساتي العلمي الوازن والحقيقي سواءً في الذكاء الاصطناعي أو البرمجيات أو ما شابه ذلك في جلّ الدول العربية، رغم أنّ هذا التوجه هو الذي بإمكانه رسم أبعد مما يطرحه واقعنا، إضافة إلى أنّه مؤهلٌ لكي يسحبنا نحو عتبة مستقبلية مغايرة.

صحيح أنّ التقدّم العلمي أمرٌ إنسانيٌ، لكن مسألة التوجيه والتحكّم ستظل على ما يبدو في يد من ينتج ويتحكّم في المجال التكنولوجي والبرمجيات والذكاء الاصطناعي: إنّه من سيقود المستقبل.

أمّا فيما يخص واقعنا العربي، فإنّ العتبة التي يبدو أنّها بدأت تنجلي ستعمّق التراكم الذي خلّفته عتبة الحداثة نحو إثقال الكاهل العربي بمزيد من التحديات المستقبلية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن