"من شان الله.. يا مصر يلّا".. كان ذلك هتافًا ردده صبية فلسطينيون بجوار السياج الحدودي مع مصر يستدعي أدوارها من ذاكرة التاريخ قديمه وحديثه.
"عشمانين يا مصر".. كان ذلك هتافًا مماثلًا في معناه ومغزاه وقدر الرهان على الدولة العربية الأكبر رددته تظاهرات احتجاجية ممتدة وصاخبة قرب السفارة الإسرائيلية بالعاصمة الأردنية عمان.
قد يقال إنّ العالم العربي كلّه، نظمًا وشعوبًا، متخاذل، كأنه فقد مناعته وطاقته في التعبير عن غضبه، يتألم ويتعاطف مع الضحايا دون فعل يؤثّر ويغيّر في المعادلات السياسية، أو يوضع في اعتبار حسابات القوى والمصالح.
لماذا التركيز على مصر وحدها والعتب المرير عليها؟
الإجابة: إنه "العشم" فيها والرهان عليها، الذي لم يخفت أبدًا رغم كل الانكسارات والهزائم والتراجعات الفادحة حتى وصلنا إلى ما يشبه الغيبوبة التاريخية.
إذا توقف العالم العربي عن طرح السؤال المصري، فالمعنى والتداعيات أخطر وأفدح.
إنه اليأس من أية أدوار قد تلعبها حاضرًا ومستقبلًا، أو الانتحار التاريخي الكامل.
أية إشارة عن شيء ما قد يحدث في مصر له صدى مختلف في أرجاء الإقليم كلّه.
إذا سقطت المقاومة الفلسطينية فسوف تكون تلك هزيمة استراتيجية تلحق بمصر
لم تكن إفطارات "العيش الحاف"، التي تنظّم أسبوعيًا على سلّم نقابة الصحفيين المصرية حدثًا كبيرًا بذاته، لكن رسالتها بدت داعية إلى هتافات جماهيرية في الأردن تستعيد "العشم" في مصر، كأنها تقول إفعلي شيئًا يتسق مع تاريخك ولا تتركي غزّة وحدها تموت جوعًا فيما معبر رفح مغلقًا.
أحكم الإسرائيليون الحصار ومنعوا أية إمدادات غذائية عن مئات الآلاف من الجوعى، قصفوا معبر رفح لأربع مرات، وشلوا بصورة شبه مطلقة أية سيادة مصرية على المعبر دون أن ترتفع إلى مستوى مسؤوليتها، ولا حاولت كسر الحصار.
كان ذلك داعيًا إلى التساؤل المرير في العالم العربي كلّه: أين تقف بالضبط؟
السؤال بنصّه يتجاوز الاعتبارات الإنسانية والقومية إلى الأمن القومي المصري نفسه.
ما يحدث في غزّة شأن مصري مباشر بضرب في صميم أمن مصر القومي ويهدد وحدة أراضيها.
هذه حقيقة لا يصح تجاهلها.
إذا سقطت المقاومة الفلسطينية فسوف تكون تلك هزيمة استراتيجية تلحق بمصر، أمنها ومستقبلها.
أوقفت بسالة المقاومة مشروع التهجير القسري إلى سيناء، لكن المشروع نفسه ما يزال ماثلًا.
هذه حقيقة أخرى يصعب نفيها.
إذا ما اقتحمت القوات الإسرائيلية مدينة رفح الفلسطينية وارتكبت مجازر بحق مليون ونصف المليون فلسطيني نزحوا بترهيب السلاح إليها، فإنّ النتائج والتداعيات سوف تضرب بكل اتجاه وردات الفعل لا يمكن توقعها، وقد يطل مشروع التهجير مجددًا.
فيما هو ظاهر فإنّ البيت الأبيض الأمريكي لا يثق في كفاءة وقدرة المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين على إدارة الحرب، لكنه يتماهى عمليًا مع آلة القتل الإسرائيلية.
أقصى ما تطلبه قبل اجتياح رفح أن تكون خططه قادرة على تخفيف حجم المذابح، لا منعها! إنها حرب واشنطن أولًا وأخيرًا دون أن تخشى أية ردات فعل على مصالحها في العالمين العربي والإسلامي.
وسط ضجيج الكلام عن أزمة في العلاقات مع إسرائيل أجهضت قرار مجلس الأمن (2728)، الذي يقضي بوقف مؤقت للعمليات العسكرية خلال شهر رمضان وسرعة إدخال المعونات والمساعدات الإنسانية، بادعاء أنه "غير ملزم".
ثم كافأت العدوان بشحنات سلاح وذخيرة وطائرات أكثر قدرة على التقتيل الجماعي دون أن يعترض أحد في العالم العربي، لا مصر ولا غيرها.
لماذا وكيف وصلنا إلى هنا؟
الحقائق وحدها تتكلم.
رغم فداحة الهزيمة العسكرية في حرب (1967)، إلا أنّ مصر لم تنكسر، انتكست عسكريًا لكنها لم تُهزم سياسيًا، تمكنت خلال ست سنوات من إعادة بناء قواتها المسلحة، وخاضت حرب استنزاف طويلة لثلاث سنوات كانت بمعاركها وبطولاتها البروفة الكاملة لعبور جسور قناة السويس في حرب أكتوبر (1973).
أسوأ ما جرى أنّ البلد الذي حارب وضحى لاستعادة سيناء المحتلة وجد نفسه بالإدارة السياسية للحرب وما بعدها طرفًا في صلح منفرد أفضى إلى توقيع اتفاقية "كامب ديفيد".
انسحبت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وهمّشت أدوارها في إقليمها وعالمها.
رددت الدعايات الرسمية: "إنهم يريدون من مصر أن تحارب حتى آخر جندي".
كان ذلك تزييفًا للحقيقة.
سلسلة من الكوارث العربية الكبرى نزعت أية مناعة استراتيجية حتى وصلنا إلى مذابح غزّة
في كل الحروب التي خاضتها مصر دافعت عن نفسها وأمنها القومي المباشر قبل وبعد كل اعتبار.
تردد وقيل على لسان الرئيس أنور السادات إنّ (99%) من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة وحدها.
أفضى ذلك الرهان بتداعياته إلى سلسلة من الكوارث العربية الكبرى، التي نزعت أية مناعة استراتيجية، حتى وصلنا إلى مذابح غزّة دون أية ممانعة جدية، أو من غيرها الذين يتطلعون لوراثة أدوارها!
قبل أسابيع بدا أنّ مصر قد تلجأ لتعليق اتفاقية "كامب ديفيد"، لوّحت بهذا السيناريو في الغرف المغلقة اعتراضًا على مشروع التهجير القسري من غزّة إلى سيناء، لكنها سرعان ما عادت إلى اللغة الرخوة المعتادة على لسان وزير خارجيتها سامح شكري بالتأكيد على التمسك بـ"كامب ديفيد"!
لا توفر مثل هذه اللغة أمنًا أو احترامًا.
بتعبير الدكتور جمال حمدان، صاحب السفر الجليل "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، في حوار استثنائي جمعه مع الأستاذ محمد حسنين هيكل وأجواء ما بعد "كامب ديفيد" تخيّم على مصر ومستقبلها: "حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحيانًا إلى أسفل.. شهدنا انقلابًا لأنه كان بين السكان من لم يقدر ولم يرع حرمة وحق المكان".
وكان الثمن مروّعًا بامتداد عقود توالت.
(خاص "عروبة 22")