إستنادًا إلى التقرير الإقتصادي العربي الموحّد 2023، بلغت مساهمة قطاعات الإنتاج السلعي 51.6% في توليد الناتج المحلي الإجمالي للعام 2022، وتمثّل الزراعة والصيد والغابات 4.8% والصناعات الإستخراجية 29.5%، الصناعات التحويلية 11.3%، التشييد 5.8% والكهرباء 1.07%، بينما بلغت مساهمة قطاعات الخدمات الإنتاجية 22.3% وقطاعات الخدمات الإجتماعية 23.9%، ونلاحظ أنّ مساهمة قطاع الزراعة والصيد والغابات، أقل مساهمة في قطاع الإنتاج السلعي بإستثناء الكهرباء والغاز والماء، مما يعكس ضعف أداء القطاع الزراعي الذي يمثّل القطاع الرئيسي في تحقيق الأمن الغذائي العربي ودوره في إستدامة النظم الغذائية في الدول العربية، علمًا أنّ الناتج المحلي الاجمالي للدول العربية بلغ 3.6 تريليون دولار.
تُعتبر الزراعة الإيكولوجية، نهجًا شاملًا يدمج عناصر من البيئة والاقتصاد والمجتمع ضمن نظام غذائي، ويمكن لهذا النهج أن يدعم صغار المنتجين بعدة طرق، إذ إنه يمكن أن يساعد في زيادة قدراتهم على الصمود، والحد من التكاليف والاعتماد على المدخلات الخارجية، وتحسين فرص الوصول إلى الأغذية، المغذية والآمنة والأسواق، ويعتبر رفاه صغار المنتجين، لا سيما من حيث التمكين والإدماج الاجتماعي، أحد محاور التركيز الرئيسية أيضًا.
أدلة مقنعة وقرائن متزايدة على أن تقنيات الزراعة الإيكولوجية قد تحقق إنتاجًا وفيرًا وربحية عالية
ويُمكن تعريفُ الزراعة الإيكولوجية على أنها علم ونشاط وممارسة، وكان هذا النموذج قد اكتسب شعبية في العديد من المراجع والأدبيات، مما يشير إلى وجود نظام غذائي يمنح الأولوية لصغار منتجي الأغذية، ويشير النموذج إلى أنه يجب أن يتمتع جميع صغار المزارعين بفرص المشاركة دون قيود أو شروط في اتخاذ القرارات بشأن الأراضي والموارد العامة مثل الماء والهواء والثقافة والمعلومات، كما تُقدِّم الزراعة الإيكولوجية على أنها استراتيجية لتوفير طعام صحي، وزيادة الاستدامة الزراعية، وتنشيط المجتمعات المحلية. وبالمقارنة مع الممارسات الزراعية الشائعة، هناك أدلة مقنعة وقرائن متزايدة على أن تقنيات الزراعة الإيكولوجية قد تحقق إنتاجًا وفيرًا وربحية عالية مع تجنّب العوامل الخارجية البيئية؛ وهو تحوُّل تشتد الحاجة إليه مع تزايد تأثيرات تغيّر المناخ على إنتاج الغذاء، والعكس صحيح.
من ناحية أخرى، يعمل مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ (COP28)، على دفع جهود الدول لتحقيق استدامة النظم الغذائية، وتأسيس نظام غذائي عالمي مستدام، والدعوة إلى العمل الجماعي واستغلال المؤتمر للتركيز على النظم الغذائية المستدامة، إذ إنّ التغيّرات المناخية تشكل تهديدًا صريحًا ومباشرًا للأمن الغذائي العالمي، وتؤثر سلبًا على الإنتاجية الزراعية، وتؤدي إلى تقليل إنتاجية غالبية المحاصيل الزراعية بنسب مئوية تتراوح بين 10% و40%، وهو ما يخلق أزمة غذائية، على المستوى العالمي.
لا مفر أمام العالم من التحوّل إلى نظم غذائية أكثر استدامة، تلبي احتياجات مليارات البشر من الغذاء، خاصة أنّ التقديرات العالمية تشير إلى زيادة الاحتياجات الغذائية بنسبة 60% بحلول العام 2050، اذ إنّ مؤتمر COP28 كان فرصة مهمة للعمل على تحقيق استدامة النظم الغذائية، ودفع الدول للتحوّل إلى نظم غذائية مستدامة عبر العديد من المبادرات والآليات المبتكرة، للحد من تداعيات التغيّرات المناخية التي تزيد من صعوبة تلبية الاحتياجات الغذائية، وهذا المؤتمر يركّز على إطلاق حقبة جديدة من التمويل الغذائي الشامل.
يعتمد توسيعُ نطاق ممارسات الزراعة الإيكولوجية على الجهود التعليمية التي تؤثّر على النظم الغذائية
وتهدف مبادرة الابتكار الزراعي للمناخ إلى ابتكار أنظمة زراعية وغذائية تدعم العمل المناخي، وتسرّع التحوّل المنشود في النظم الغذائية واستدامتها، وتعزّز المساهمة الاقتصادية للقطاع الزراعي الذي يوفر الغذاء لسكان الكوكب. وتضم المبادرة أكثر من 500 شريك دولي من المنظمات الحكومية وغير الحكومية حول العالم، باستثمارات تصل إلى 13 مليار دولار لدعم مشروعات الزراعة الذكية مناخيًا، بجانب مبادرة التطوّر الزراعي التي تهدف إلى جعل الزراعة المستدامة المقاومة للتغيّر المناخي الخيار الأكثر جاذبية واعتمادًا لدى المزارعين في جميع أنحاء العالم بحلول العام 2030، إذ إنّ غالبية دول العالم أصبحت تعاني من تداعيات التغيّر المناخي الذي صاحبته موجات شديدة القسوة من الجفاف والتصحّر، وهو ما أثّر بشكل كبير على قطاعي الزراعة والأغذية، الأمر الذي جعل النظام الغذائي العالمي يواجه تحديات جسيمة.
وتشير دراسات عدة أجريت بشأن موضوع الأمن الغذائي، إلى أنّ تدني مستويات الإنتاج في الدول العربية، يمثّل العائق الأكبر أمام تجارة الغذاء، وبما أنّ الإنتاج قليل جدًا، فلا يتبقى للأسر المنتجة للغذاء شيء للبيع، إذ يعتمد أكثر من 50% من الأسر الزراعية على زراعة الكفاف، ويؤدي نقص الاستثمار في الزراعة إلى حلقة مفرغة من الفقر ونقص الإنتاج، خاصة في ظل حقيقة أنّ النمو السكاني تجاوز الآن نمو القطاع الزراعي بسنوات عدة في الدول العربية، والسبب الآخر وثيق الصلة بتقادم تكنولوجيات إنتاج الغذاء، هو عدم الاستثمار في التخزين، وفي زيادة القيمة المضافة، والبنية التحتية للنقل والتسويق، ووضع معايير تنسيقية لتسهيل تجارة المحاصيل الغذائية.
وفي الوقت الذي قد يبدو فيه الهيكل المحلي لسلاسل التوريدات الزراعية الإيكولوجية؛ وكأنه يتناقض مع تلبية احتياجات الاستهلاك التي تتزايد تزايدًا سريعًا والطلب على الغذاء، فإنّ هناك أدلةً عديدةً على أنّ سلاسل القيمة الغذائية، الأقصر لنموذج الزراعة الإيكولوجية، قادرةٌ على الاستجابة لهذه التحديات بشكل مختلف ومباشر، وذلك عن طريق الحدِّ من هدْر الطعام وتعزيز الاقتصادات الدائرية والمساهمة في نهاية المطاف في التكيّف مع تغيّر المناخ والحد من آثاره.
ومن خلال استخدام السياسات الصحيحة، يمكن للممارسات الزراعية الإيكولوجية أن تنتشر على نحو يتجاوز التجارب المحلية المعزولة لاستخدامها من قبل المزيد من العائلات والمجتمعات في مناطقَ أكبر، وإشراك المزيد من الأشخاص في معالجة الأغذية وتوزيعها واستهلاكها، وبهذا المعنى، يمكن أن يتوسع نموذج الزراعة الإيكولوجية، ليصبح بديلًا عن الممارسات الزراعية الشائعة، ويضع في نهاية المطاف حدًّا للأساليب المُدمِّرة التي تؤثر على التربة والتنوّع البيولوجي والحفاظ عليها على المدى الطويل.
المنطقة العربية تمتلك إمكانات هائلة غير مستغلة لتلبية احتياجاتها الغذائية ولزراعة مزيد من الأغذية لدعم دول أخرى
ويعتمد توسيعُ نطاق ممارسات الزراعة الإيكولوجية على الجهود التعليمية التي تؤثّر على النظم الغذائية، وتحفيزِ الناس على العمل معًا من أجل الإصلاح الزراعي، وتَستخدمُ حركاتُ الزراعة الإيكولوجية المُوَسَّعَةُ طرقًا للتدريس والتعلُّم تتضمن المعرفة التقليدية والمحلية والحديثة، وتشجع على الاستقلال. ومع وضع هذه المجموعة المتنوعة من التوجهات في الاعتبار، يتضح أنّ الزراعة الإيكولوجية باعتبارها أحد النماذج، ترتبط باحتياجات صغار المزارعين، فضلًا عن تمكينهم، كل هذا أثناء العمل على تلبية الطلب على الغذاء بطريقة مستدامة، وضمان الأمن الغذائي للمجتمعات بطريقة مباشرة وطويلة الأجل.
وفي الختام، لا بد من إعادة التأكيد على أنّ الدول العربية لديها من الموارد الأرضية والمائية والبشرية والتقنية والمادية ومن التجارب ما يكفي لتحقيق الأمن الغذائي العربي، إذا ما تم اتخاذ الترتيبات اللازمة لحماية وتطوير استخدام تلك الموارد، والحفاظ على المهدور منها وضمان ترشيد استغلالها وحسن توظيفها، إلا أنّ ذلك يتوقف وبالدرجة الأولى على توفر الإرادة التي تشكل أهم المفاتيح إلى عالم التنمية، واستدامة النظم الغذائية من خلال تنشيط الزراعة في الدول العربية. فالمنطقة العربية تمتلك إمكانات هائلة غير مستغلة، ليس فقط لتلبية احتياجاتها الغذائية، بل ولزراعة مزيد من الأغذية لدعم دول أخرى واستخدام الإيرادات في تحسين اقتصادات الدول العربية، ودعم التوجه نحو الزراعة الايكولوجية واستدامة النظم الغذائية.
(خاص "عروبة 22")