الفكرة الأساس لطرح زيبوف تتلخص في أنّ الرأسمالية "الجديدة" لا تستغل الموارد الأولية وقوى العمل كما في الماضي القريب، بل تستغل كل مفاصل الطبيعة الإنسانية بغرض تحويل مكوناتها إلى معطيات سلوكية كمية، بالإمكان نمذجتها والتصرف فيها. "الفائض السلوكي" المترتب عنها، إنّما هو فائض الاقتصاد الرقمي المرتكز على الاستخلاص الواسع للبيانات والمعطيات.
رأسمالية المراقبة تتحدد هنا باعتبارها ذلك الشكل الجديد للرأسمالية، التي تنطلق من تجميع ومعالجة وتخزين التجارب السلوكية للأفراد والجماعات، ثم تحويلها إلى معطيات كمية يتم الاشتغال عليها لإنتاج توقعات دقيقة، وضخها بالتالي فيما تسميه الباحثة بـ"سوق السلوكات المستقبلية".
المعطيات السلوكية الشخصية باتت الموارد الأولية لهذا النمط الجديد من الرأسمالية
والقصد أنّ أباطرة الويب والإنترنيت التجاري (غوغل، مايكروسوفت، فايسبوك، أبل وغيرها) لا يكتفون بالتقاط كل معطياتنا المتأتية من تفاعلاتها والآثار التي نتركها بإبحارنا بالشبكات الرقمية، أو بمبادلاتنا من خلال الهواتف الجوالة وأدوات إنترنت الأشياء، بل يعملون أيضًا على تغييرها وتوجيهها وارتهان كل سلوكياتنا القادمة بتطويعها.
لا يقتصر الأمر بهذه الحالة، على بناء توقعات انطلاقًا من السلوكيات إياها، بل يتعداه إلى العمل على إعادة تشكيل تصرفاتنا بالجملة والتفصيل. ولذلك، فعوض أن تستغل شركة غوغل مثلًا معطيات مستعملي محرّكها في البحث لتحسين أداء هذا الأخير والرفع من نجاعته كما تدعي، فإنها تعمد على استخلاصها من تفاعلاتنا وما نتركه من أثر، بغرض بيعها للمعلنين وتحقيق هوامش في الربح لا مثيل لمستوياتها في الاقتصاد التقليدي المعروف.
إنّها، بتجميعها ومعالجتها وتوظيفها لمعطياتنا الشخصية، إنّما تقوم بمطاردة سلوكنا وقراءة أفكارنا واستدراج غرائزنا، لتحديد آرائنا وانطباعاتنا وأحاسيسنا، أي تحديد مواصفاتنا بدقة عالية، لتضعها بين يدي الشركات المعلنة، الباحثة عن "أسواق دفينة"، قد يتعذر عليها بلوغها عبر استراتيجياتها التجارية المعتادة.
وبما أنّ العملية تستوجب آليات تقنية دقيقة، فإنّ شركات الويب التجاري إنما تعمل على تطوير برامج (في الذكاء الاصطناعي والتعلّم العميق تحديدًا)، تكون قادرة على تحديد مواصفاتنا بدقة لامتناهية، من خلال رصد وتحليل عاداتنا في البحث بالمنصات الرقمية وبشبكات الاتصال والتواصل، عبر استخلاص ما يحرّك سلوكنا، ما يحدّده وما يؤثر فيه، ومن خلال مطاردتنا في أنماط استهلاكنا وتنقّلنا وتفكيرنا، لا بل في حميميّتنا وطبائع استغلالنا لأوقات الفراغ.
المعطيات السلوكية الشخصية باتت إذن هي الموارد الأولية لهذا النمط الجديد من الرأسمالية. إنّها المحرّك الأساس لسوق الإعلان والإشهار وللدورة الاقتصادية المرتكزة على "الفائض السلوكي" باعتباره فائض القيمة الجديد.
وازع استخلاص المعطيات، حيثما وجدت وأيًّا يكن شكلها أو حجمها أو طبيعتها، إنما هو القمين بإفراز اقتصاديات في السلم وفي النوع مرتفعة، وهو القادر على استجلاب الامتياز التنافسي المنبني على عرض السلوكيات وطلبها بالسوق.
بالتالي، فكل مكونات "سوق السلوكيات" هذا قد أضحت سهلة المنال: وفرة لا تضاهى في المعطيات الشخصية والخاصة، علوم وتقنيات وبرامج لدراسة المعطيات المجمّعة أو المحتمل رصدها وتجميعها، بنية تكنولوجية ضخمة، قدرات لوغاريتمية عالية، أنظمة معالجة متقدّمة الأتمتة، ومنصات رقمية تصطاد كل من يعبرها أو يرتادها أو يقترب منها حتى.
كل حركاتنا، حلنا وترحالنا، شعورنا وتطلعاتنا، أحاسيسنا وانتظاراتنا، كلها أضحت مجرّد "موارد أولية" للرأسمالية الجديدة. إنّها ثروة اقتصاد المراقبة، المرتكز على مبدأي الإخضاع والتراتبية ما دام مبدأ التبادلية التقليدية بين المقاولات والمستعملين قد تراجع لفائدة نموذج ينبني على استخراج فائض القيمة انطلاقًا من تفاعلاتنا وما يدرّه من بيعنا للمعلنين.
خاصّية رأسمالية المراقبة تكمن في استصدار عناصر مرتبطة بنا وتحويلها إلى سلعة تخضع لطقوس العرض والطلب
إنّنا، في ظل اقتصاد المراقبة، لسنا مصدر تحقيق القيمة كما كان عليه الحال في الاقتصاد التقليدي المعتاد، ولسنا المنتوج الذي يتم تسويقه. إنّنا الأداة التي تُستخرج منها المادة الأولية التي تُضخ في برمجيات الذكاء الاصطناعي لتصميم أداة جديدة تُباع للزبناء الحقيقيين. نحن لسنا الزبناء، الزبناء هم المعلنون. إنّنا نحن الذين نخضع بالمحصلة للأتمتة، وليس تيارات المعطيات المرتبطة بنا أو المستنبطة من سلوكياتنا. إنّهم حوّلونا إلى آلات حقيقية لإفراز المعطيات وتوظيف هذه الأخيرة لإفراز المزيد منها.
خاصّية رأسمالية المراقبة بهذه الجزئية، إنّما تكمن في استصدار عناصر مرتبطة بنا، خارجة عن نطاق الدورة التجارية، وتحويلها إلى سلعة تخضع لطقوس العرض والطلب. يبدو الأمر هنا كما لو أنّ الرأسماليين الجدد هم بصدد تصميم سلعة مستجدة، تم تحديد مواصفاتها من الواقع الملموس لكائنات بشرية تم استصدار أجسادها وأفكارها وأحاسيسها، وتم الزج بها في أتون منطق السوق وسعيه الدؤوب لمزيد من الربح.
(خاص "عروبة 22")