تقدير موقف

الذكاء الاصطناعي بين التفاؤل والتشاؤم

في خمسينيات القرن الماضي، أفصح العلماء المختصون عن محاولاتهم لصنع آلة ذكية تحاكي الذكاء الإنساني، خاصة بعد أن أمكن استخدام برامج الحاسوب الرقمي (digital computer)، في عمليات رياضية وإحصائية تعتمد على نظريات الاحتمالات والمقارنات. وفي سنة 1956 تحديدًا، عُقد مؤتمر علمي بجامعة دارتموت الأمريكية، أعلن فيه عالم الحاسوب الأمريكي بجامعة ستانفورد جون مكارثي (John McCarthy) عن صياغته لمصطلح الذكاء الاصطناعي ((artificial intelligence، وعرّفه بأنه "علم وهندسة صنع الآلات الذكية".

الذكاء الاصطناعي بين التفاؤل والتشاؤم

في هذا المسار، كانت هناك أيضًا جهود علماء آخرين، يُعتبرون من المؤسسين في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل: آلان تورينج، ومارفن منسكي، وآلين نيويل، وهربرت سيمون.

ومنذ تلك الفترة (الخمسينيات)، وحتى يومنا هذا، تستمر مساعي البحث العلمي والتقني الحديث في البلدان الغربية والشرقية المتقدمة، للارتقاء بقدرات الحواسيب لتضاهي فعلًا قدرات الإنسان في عقله وبدنه. ما يعني إكسابها درجات عالية من الذكاء الاصطناعي.

رغم النظرة التفاؤلية هناك نظرة تشاؤمية لما قد يصل إليه الذكاء الاصطناعي من تطور يفلت زمامه من سيطرة الإنسان

وعبر مراحل متتالية من التجارب بين النجاح والإخفاق، وصل الذكاء الاصطناعي أخيرًا إلى درجة من التطور تملأ تفكير الناس وتشغل حياتهم في مختلف المجالات. وبالرغم من حالة الإعجاب والإشادة بمنجزاته وما يقدّمه للبشرية من خدمات جليلة متنوعة تفوق قدرات الإنسان في الجودة والسرعة والدقة، والتعامل مع كميات ضخمة من البيانات والمعلومات؛ الأمر الذي انعكس في تحسين أداء المصانع والمؤسسات الإنتاجية بأنواعها، وتعظيم كميات الإنتاج وتنويعها وتطويرها، وأتمتة كثير من الأعمال التي تتطلب القوة البشرية، فضلًا عن فهمه للبيانات والمعلومات وقدرته على تحليلها وتصنيفها واستنتاج النتائج المطلوبة، واختيار الخيارات الأجدى والأوفق للحلول، وما إلى ذلك.. بالرغم من هذه النظرة التفاؤلية، هناك أيضًا التخوّف والتوجس والنظرة التشاؤمية لما قد يصل إليه الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب من تطور يفلت زمامه من سيطرة الإنسان، فضلًا عما يبدو من خطورة إحلاله بدل البشر في القيام بالوظائف المختلفة، أو تهديداته الأمنية مثل سوء الاستخدام، وانتهاك الخصوصية، وإضعافه لقدرات الإنسان الاجتماعية.

غير أنّ الذكاء الاصطناعي، في كل الحالات، يظل يتعلق بطبيعة العقل البشري، وحدوده، والمناهج العلمية. ويرتكز أساسًا على ماهية "الذكاء"، وكيف يمكن أن يُعرّف للآلة، وتتدرب على برامج المعرفة في بيئة عملها. كما أنّ الذكاء الاصطناعي يُعتبر في الواقع، تحديًا للعلوم التي انبثق منها، خاصة علم الحاسوب بمختلف فروعه، والرياضيات، واللغة البشرية الطبيعية، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وغير ذلك من العلوم المرتبطة وثيقًا بأبحاثه المختلفة، والتي تقدّم فيها كثيرًا وتنوّع في تخصصاته ونتائجه. خاصة بعد أن اقتحمت أبحاثه وتجاربه منظومة الاجتماع البشري، وأفرز أسئلته الصعبة، مثل هل يمكن أن يكون للآلة وعي؟ وهل من الممكن نسخ المخ البشري مباشرة في المعدات والبرمجيات؟ وهل يمكن أن يكون ذلك بشكل مطابق للأصل تمامًا؟ ثم ماذا بعد النسخ؟ هل سيعمل المخ في جسم الآلة، مثلما كان يعمل في جسم الإنسان تمامًا؟ وهلم جرا...

إن الذكاء الاصطناعي مجال واسع جدًا، معقّد المشكلات والموضوعات التي يعالجها، ويتعامل معها من خلال ما يُعرف بالخوارزميات (algorithms)؛ وهي برمجيات متنوعة من التعليمات الدقيقة والخطوات المنطقية لتعريف المشكلة، وتنظيم العلاقات بين عناصرها، وتحديد سريان آلياتها من بدايتها إلى نهايتها؛ فيتعلّم بواسطتها، ويتدرب، ويقوم بعمليات الاستنتاج والتفكير المنطقي، وتقديم الحلول، إلى جانب تعامله مع المعلومات الناقصة أو غير المؤكدة باستخدام مفاهيم الحدس والاحتمالية. وبذا، يمكنه البحث عن خوارزميات أكثر قدرة على حل المشكلات، واستخدام شبكات التعليم العميق، ومواجهة الأنماط المختلفة، ومحاكاة هياكل معينة داخل المخ البشري والحيواني، كالتي تؤدي إلى ظهور مهارة الحس الحركي، وغيرها...

كل ذلك، يحدث من خلال "هندسة المعرفة"، عملية فهم المعرفة البشرية وتمثيلها في هياكل البيانات للذكاء الاصطناعي، فيما يُعرف بالأنطولوجية (Ontology)، كنظام لتمثيل الأشياء وإظهار خصائصها، وكيفية ارتباط مفاهيمها وفئاتها في علاقات صحيحة تمامًا، مثلما ترتبط في العالم الحقيقي، حيث توضع القواعد التي تطبّق على البيانات والمعلومات لمحاكاة عملية التفكير البشري وتقود إلى حل المشكلة... وفي بناء الأنطولوجية، تبنى المفاهيم المعقدة واحدًا تلو الآخر، حتى يمكن للحاسوب الذكي أن يفهم عددًا وافرًا من المفاهيم، ويصبح قادرًا على التعلّم من المصادر المختلفة، كالإنترنت، ومراكز المعلومات، وقواعد البيانات المتنوعة، ومخازن المعرفة... وبذلك يصبح قادرًا على الإضافة إلى أنطولوجيته، ليتوصل إلى النتائج الأمثل واختيار الحلول واتخاذ القرارات.

الذكاء الاصطناعي بعيد جدًا عما يخيف الإنسان ويؤرقه

من هنا، تتضخم التصورات حول إمكانيات الذكاء الاصطناعي المستقبلية!.. وتظل أسئلة التوجس والمخاوف المشار إليها قائمة، ومحل جدل كبير في الأوساط العلمية، والثقافية بعامة. ومع ذلك هناك أسس علمية وركائز تقنية عملية في هذا المجال، منها ما ذكرنا؛ يدركها المختصون ويتعاملون معها ومن خلالها، في صناعة الذكاء الاصطناعي؛ وهي التي يجب مراعاتها في هذا الشأن.. وهي لا تخرج في مجموعها عن المنظور العلمي والتقني الدقيق الذي ينظر لتطورات الذكاء الاصطناعي بموضوعية، ويحكم السيطرة على تطوراته، ويراقب نتائجه كل لحظة وحين، دون شطط في الخيال أو جنوح نحو الافتراضات البعيدة.. وتطمئننا بأنّ الذكاء الاصطناعي حقًا، بعيد جدًا، عما يخيف الإنسان، ويؤرقه، ويقض مضجعه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن