تقدير موقف

هل التخلّف مصير حتمي للعرب وسكان جنوب العالم؟

يشعر الكثيرون بأنّ التخلّف والفقر وكأنه قدر حتمي لأعراق وأديان بعينها أو هناك حتمية جغرافية معيّنة تجعل الجنوب أفقر وأكثر تخلّفًا، من الشمال حتى داخل البلد الواحد.

هل التخلّف مصير حتمي للعرب وسكان جنوب العالم؟

مع أن تحديد أسباب التقدّم والتخلّف مسألة شديدة التعقيد بل تكاد هي المبحث الرئيسي في العلوم الاجتماعية، إلا أنه من المهم دحض هذه التصورات الشائعة والتي تتبناها أحيانًا جهات تعتبر نفسها علمية، وتزرع اليأس في نفوس الشعوب المنكوبة كالشعوب العربية.

في معظم تاريخ الحضارة البشرية كانت مناطق الشرق الأوسط والبحر المتوسط والهند والصين أكثر تقدّمًا من بقية العالم

وإحدى هذه التصورات، افتراض أنّ الجنوب العالمي أكثر تخلّفًا بالفطرة من الشمال، دون النظر للسياقات المسببة لتأخّر الجنوب، وحتى داخل القارة والبلد الواحد يفترض أنّ الشمال أكثر تقدّمًا وثراءً من الجنوب، مثلما يظهر في بلد، كإيطاليا، مشهور بالفارق الكبير بين شماله الثري الأٌشبه بشمال غرب أوروبا وجنوبه الفقير الأقرب لبلدان البحر المتوسط الأخرى.

لكن الواقع أنه في معظم تاريخ الحضارة البشرية التي بدأت قبل نحو خمسة آلاف عام كانت مناطق الشرق الأوسط والبحر المتوسط والهند والصين أكثر تقدّمًا من بقية العالم بما في ذلك دول شمال أوروبا الغنية المتباهية حاليًا بثرائها.

ورغم فقر الجنوب العالمي حاليًا، فإنّ أعلى معدلات نمو اقتصادي تتحقق حاليًا خارج أوروبا بدول مثل الهند وشرق أسيا وبعض مناطق أمريكا اللاتينية، وحتى أعلى نمو اقتصادي بأوروبا يحدث في شرقها الأفقر، في مؤشر على أنّ خريطة التقدّم بالعالم تتغيّر.

كما أنّ ظاهرة تقدّم الشمال على الجنوب يقابلها وجود ملموس للوضع المعاكس، فجنوب غرب تركيا أغنى من شمالها.

وجنوب الصين أكثر تقدّمًا من شمالها وبصفة عامة التباين في الصين أوضح بين شرق ساحلي ومنفتح وغني، مقابل الغرب الداخلي الأفقر.

ومعدلات النمو والموارد البشرية بما في ذلك نسب التعليم وصناعة التكنولوجيا أفضل بجنوب الهند من شمالها (رغم أنّ الشمال أٌكبر سكانًا ويهيمن سياسيًا).

لو أجري بحث في القرن العاشر الميلادي عن ترتيب الحضارة والرخاء لتصدّرته الدول الإسلامية

وفي الولايات المتحدة يُنظر لجنوبها على أنه أكثر تخلّفًا من شمالها، ولكن الواقع أنّ لوس أنجلوس التي تقع بأقصى جنوبها الشرقي قرب حدود المكسيك هي أيقونة حضارتها الحديثة، وفلوريدا التي تقبع بأدنى نقطة في جنوبها هي من أغنى ولاياتها.

وبالنسبة للافتراض الذي روّجه بعض المستشرقين بأنّ التخلف مرتبط بدين بعينه كالإسلام أو حتى بمذهب ما (الدول الأرثوذكسية هي الأفقر أوروبيًا)، فلو أجري بحث في القرن العاشر الميلادي عن ترتيب الحضارة والرخاء لتصدّرته الدول الإسلامية ثم الأرثوذكسية ولتذيّلته الدول الكاثوليكية الأغنى حاليًا.

ولدى مقارنة بعض الدول الإسلامية بجيرانها المشابهين في الظروف الحضارية والسياسية (لكي تصح المقارنة)، سنجد أنّ ماليزيا الدولة المسلمة المحافظة هي أكثر بلدان جنوب شرق آسيا تقدّمًا بلا منازع، وتتفوق بوضوح على تايلاند البوذية بعمق والفلبين المعتزّة بمسيحيّتها، كما أنّ تركيا متوسط الدخل فيها أعلى من جيرانها المسيحيين مثل أرمينيا وجورجيا، ومقارب لرومانيا وبلغاريا. 

وفيما يتعلق بافتراض بأنّ المجتمعات الأكثر علمانية بالضرورة أكثر تقدّمًا من المجتمعات المتديّنة، كما تظهر بعض المسوح السطحية حاليًا، فلو أجريت مثل هذه المسوح بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي لكانت النتيجة مختلفة تمامًا حيث كانت اقتصادات الدول الشيوعية التي يتخذ بعضها من الإلحاد عقيدة منهارة تمامًا، وحتى اليوم الولايات المتحدة أكثر مجتمعات الغرب تديّنًا، وأكثرها ثراءً بالوقت ذاته، وفرنسا الموغلة في العلمانية أقل تقدّمًا وثراءً من دول أوروبية تلعب فيها الكنائس دورًا مهمًا مثل بريطانيا والسويد وألمانيا، وفي الأخيرة فإنّ ولاية بافاريا الكاثوليكية والمحافظة هي أغنى من ولايات الشمال الأكثر علمانية.

وبالنسبة لوهم تفوّق الأعراق الأكثر بياضًا أو أنّ هناك تراتبية لونية تفضي لتراتبية حضارية، فليس ما يدحضه فقط تفوّق اليابان وغيرها من دول شرق آسيا على كثير من الدول الأوروبية (بدأ هذا بدوره يخلق وهم تفوّق العرق الشرق الآسيوي)، بل يدحض هذا الوهم أيضًا أنّ جنوب الهند الذي يسكنه الدرافيديون وهم شعب شديد السمرة لدرجة تقارب الزنوج، أكثر تقدّمًا من شمالها الذي تسوده المجموعات الهندوأوروربية الأقل سمرة التي تمت بصلة قديمة للشعوب الأوروبية.

وجنوب أفريقيا ذات الأغلبية السوداء دولة رائدة اقتصاديًا بعدما أحسنت استغلال إرث الأقلية البيضاء.

أزمة العالم العربي هي نتيجة مسارات خاطئة للتحديث وشرذمة سياسية والحل في البحث عن سُبُل تحقيق الوحدة

ولقد كان الإنجليز لقرون مقتنعين أنّ العرق الإيرلندي أدنى بالفطرة منهم، واليوم أيرلندا الدولة الثانية بالعالم من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي بينما بريطانيا في المرتبة الحادية والعشرين.

فأزمة العالم العربي الحالية ليست بسبب عيب مزمن بالشعوب أو الثقافة العربية، بل هي نتيجة مسارات خاطئة للتحديث، إضافة لدور الاستعمار الغربي والإسرائيلي وحتى الإقليمي، إضافة لتشرذم سياسي استثنائي وكذلك دور النفط السلبي الذي كثيرًا ما عرقل الإصلاح الحقيقي في الدول النفطية وغير النفطية على السواء.

وليس الحل في جلد الذات، بل في تحليل أوجه القصور بشكل علمي، والبحث كما فعل قادة تجارب النهوض الناجحة مثل اليابان والصين وماليزيا، وقبلهم ألمانيا عن سُبُل تحقيق الوحدة (أيًا كان شكلها) وتعزيز ما هو إيجابي في الثقافة المحلية وانتقاء ما هو ضروري (وليس شكليًا) من الخارج.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن