العالم العربي يشتعل بالذّكاء الاصطناعي (1/2)ثورة رقميّة تعيد رسم حدود الابتكار

يشهدُ العالم العربي تحوّلًا تكنولوجيًّا متسارعًا، إذ بات الذّكاء الاصطناعي يؤدّي دورًا حاسمًا في صياغةِ مستقبلٍ أكثر تطوّرًا واستدامة. تفتحُ المبادرات الحكوميّة والاستثمارات الكبيرة في مشاريع الابتكار والخدمات الرّقمية آفاقًا واسعةً أمام قطاعات الرّعاية الصحّية والطّاقة والتّمويل، فيما تساهم تكنولوجياتٌ كالذّكاء الاصطناعي التّوليدي وإنترنت الأشياء والحوْسبة السّحابيّة في تعزيز كفاءة الأداء وزيادة الشفافيّة. هذه الطفرةُ تواكبُها جهود دائبة لمواءمة التّشريعات وتطوير رأس المال البشَري، ما يشير إلى التزامِ الدّول بتحقيقِ نهضةٍ رقميّةٍ شاملة. والنتيجةُ المتوقّعةُ هي منظومةٌ اقتصاديّة ديناميكيّة ومجتمعاتٌ أكثر جاهزيّة للمستقبل، في مشهدٍ يعيد تعريف مكانة المنطقة عالميًّا.

العالم العربي يشتعل بالذّكاء الاصطناعي (1/2)
ثورة رقميّة تعيد رسم حدود الابتكار

يشهدُ العالمُ اليوم قفزةً نوعيّةً في مجالات التِّكنولوجيا والابتكار، ولا سيّما في منطقةِ الشّرق الأوسط التي باتت تُسابق الزّمن لتعزيزِ مكانتِها كمركزٍ عالميٍّ للتقدّم التّكنولوجي والتّحوّل الرّقمي.

مع دخولنا عام 2025، تتعاظمُ الآمالُ في شأن الدور المتنامي للذّكاء الاصطناعي في قيادةِ هذه المسيرة الطموحَة، إذ تنظرُ الحكومات والمؤسَّسات إلى هذه التِّكنولوجيا باعتبارِها إحدى أهم الأدوات لتحقيقِ قفزاتٍ تنمويةٍ كبرى في شتّى القطاعات. لقد برزَت بوادرُ هذا التحوّل بوضوح خلال الفترة الأخيرة، عندما اجتمع "مجلس إدارة برنامج الخليج العربي للتنميّة" في العاصمة السّعودية الرّياض، وأعلن تمويله 12 مشروعًا جديدًا يسعى من خلالها إلى دعمِ مجالاتٍ حيويّةٍ تشمل تنمية الطفولة المبكّرة وتمكين المرأة وحماية البيئة البحرية ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة، وذلك إلى جانب مبادرةٍ عالميةٍ للأمنِ الغذائي تُركّز على مساعدة المزارعين الصّغار في مواجهةِ الآثار السلبيّة للجفافِ والتصحّرِ والتغيُّرِ المُناخي.

توظيف الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية والتمويل والطاقة والنقل يُحدث نقلة نوعية في مستوى الخدمات

هذه الخطواتُ وغيرها تندرِجُ في إطارِ رؤيةٍ شاملةٍ تهدفُ إلى توظيف التِّكنولوجيات الذّكية في معالجة التحدّيات الاقتصاديّة والبيئيّة، بما في ذلك ما يتعلّق باستدامة الموارد الطبيعية وحفظ التنوّع الحيوي، فضلًا عن تحسينِ جودةِ الحياة وضمان مستقبل أفضل للأجيال المقبلة. وفي هذا السّياق، تتجلّى أهمّية الذّكاء الاصطناعي كأحدِ أبرزِ المحرّكاتِ التي ستقود هذه الطّفرة، إذ تؤكّد التقارير والدراسات ذات الصلة أنَّ توظيفَه في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل الرعاية الصحية والتمويل والطاقة والنقل يمكن أن يُحدثَ نقلةً نوعيةً في مستوى الخدمات ويُعزّز كفاءة العمليّات ويرفع من قدرةِ المؤسَّساتِ على الابتكار.

تتعاظمُ مكانةُ الذّكاء الاصطناعي في المنطقةِ بفضل الدّعم الحكومي الواضح، إذ تبنّت دولُ الخليج العربي - وعلى رأسِها المملكة العربية السّعودية ودولة الإمارات العربية المتّحدة - استراتيجيّاتٍ وطنيّةً تضعُ الذّكاء الاصطناعي في صلبِ التنميةِ المستقبليّة، وتسعى إلى بناءِ بنيةٍ تحتيّةٍ رقميّةٍ متطوّرة تحترم متطلّبات السّيادة والخصوصيّة. في المملكة العربية السّعودية، تتواصل الجهودُ الحثيثةُ لبلوغ أهداف رؤية 2030، التي توجّهت منذ انطلاقِها نحو تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النّفط، وهو ما ترافق مع استثمارٍ متزايدٍ في مشاريع الذّكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والحوْسبة السّحابية، لتوفير حلول مبتكرة ترتقي بالخدمات الحكوميّة وترسّخ قيم الشفافيّة والكفاءة والفاعليّة. وفي دولة الإمارات العربية المتّحدة، تستندُ استراتيجية الذّكاء الاصطناعي إلى تكامل محاور متعدّدة تشملُ التعليم والبحوث والسّياسات، ما يضمن وضعَ أُسُسٍ راسخةٍ لتطويرِ قدراتٍ محليَّةٍ تنافس عالميًّا في مجالات التِّكنولوجيا المتقدّمة. ولا يقتصر الأمرُ على دول الخليج وحسب، بل تسعى دول عربية أخرى كالمملكة الأردنيّة الهاشميّة وجمهورية مصر العربيّة والمملكة المغربيّة إلى بناءِ منظوماتٍ تكنولوجيّةٍ متطوّرة تُركِّزُ على تطوير الكفاءات البشرية وإنشاء بيئات حاضنة للشركات الناشِئة، تشجيعًا للابتكار وريادة الأعمال.

من جهةٍ أخرى، تشيرُ التوقّعات إلى أنّ قطاعاتٍ عدّةٍ ستستفيد بقوّة من زخم التحوّل الرّقمي في المنطقة، وفي مقدّمِها قطاعا الرّعاية الصّحية والتّمويل. ففي الرّعاية الصّحية، يُساهم الذّكاء الاصطناعي في تسهيل التشخيص المبكر ومساعدة الأطباء في توقُّع الأوبئة ومتابعة سجلّات المرضى بطرقٍ تتّسم بالدقّة والكفاءة، كما أنَّ تِكنولوجيّات الطِّب عن بُعْد والأنظمة الطبيّة الافتراضيّة تتيحُ توفيرَ الرّعاية الصّحية إلى شرائح أوْسع من المجتمع، بما في ذلك المناطق البعيدة والنّائية، وتحسين جودة الخدمات العلاجيّة في إطارٍ من السّرعة والسّهولة.

الحماية الرّقمية ضرورة قصوى في ظلّ تصاعد التهديدات العالميّة

أمّا في قطاعِ التّمويل، فتُمثّلُ مدنٌ كبرى مثل الرّياض وأبو ظبي ودبي والمنامة مراكزَ حيويةً للابتكار المالي، إذ تشهدُ صعودًا لافتًا في التطبيقات الماليّة الرّقمية والمدفوعات الإلكترونيّة، ما يعزِّزُ مكانةَ العالم العربي كبوابةٍ للاستثمارات الدولية، ويساعدُ في بناء منظومة اقتصادية أكثر تنوّعًا واستدامة. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذا التطوّر التِّكنولوجي لم يأتِ بمعزلٍ عن متطلباتِ الأمن السّيبراني، إذ يُنْظَرُ إلى الحماية الرّقمية بوصفِها ضرورة قصوى في ظلّ تصاعد التهديدات العالميّة، لذلك تتسابقُ الدول على وضعِ نُهُجٍ جديدةٍ ومتطوّرةٍ لتأمينِ البياناتِ وصدّ الهجماتِ الإلكترونيّة التي قد تنال من ثقة المستخدمين إذا لم تُفعَّل الأطُرُ الرّادعة والقواعد التنظيميّة الضروريّة. وتشكِّلُ أنظمة الكشف المستنِدة إلى الذّكاء الاصطناعي إحدى الدّعائم الرئيسيّة لتعزيز منظومة الأمن الرّقمي وضمان سلامة التحوّلات الرّقمية التي يشهدها الشّرق الأوسط.

ولعلَّ من أبرزِ مجالات الاستثمار التي تشهد اهتمامًا متزايدًا هو قطاع الطّاقة، فعلى الرَّغم من اعتماد دول كثيرة في المنطقة على النّفط والغاز كمصدرٍ رئيسي للدّخل، يدفعُها التحوّل العالمي نحو الاستدامة إلى اتخاذ خطوات جريئة في مجال الطّاقة المتجدِّدة وترشيد الاستهلاك وتنويع المصادر. وتساهم مشاريع مثل الشّبكات الذّكية التي تعتمد على تحليل البيانات الآنيّة والقياس الذّكي في خفض معدّلات الهدر وتعزيز استخدام الطاقة النّظيفة، وذلك استجابةً لمتطلباتِ عدةِ مبادراتٍ عالميّة تحضّ على تقليلِ الانبعاثاتِ الكربونيّةِ والحفاظِ على البيئة.

كذلك، يتزايدُ تبنّي تكنولوجيّات الذّكاء الاصطناعي والرّوبوتات في قطاع النّفط والغاز بهدف تحسين عمليّات الاستكشاف والاستخراج ومراقبة خطوط الإمداد، بالإضافة إلى الصّيانة الاستباقيّة للمنشآت والمَرافِق بما يقلِّلُ تكاليفَ الصّيانة الدّورية ويخفِّضُ نِسَبَ الأعطال. وفي الوقت ذاتِه، تدعمُ الحكوماتُ البحثَ العلمي في مجال تكنولوجيّات التّخزين ونقل الكهرباء، ما يُبشّرُ بتعزيزِ قدراتِ المنطقة على تلبيةِ احتياجاتِها المتزايدة من الطّاقة بطرقٍ ملائمةٍ للبيئةِ وأكثر كفاءة.

انتشار شبكات الجيل الخامس في العديد من بلدان المنطقة يُمهِّد الأرضية لظهور منظومات اقتصادية أكثر حيويّة

وعلى صعيد البنى التحتيّة الرّقمية، يترسّخُ التحوّل نحو الحوْسبة السّحابية المتعدِّدَة والهجينة، إذ تتيحُ هذه الحلول قدرًا عاليًا من المرونة والتكيّف مع متطلبات الأمان والحوْكمة المحلّية. وتسعى شركاتٌ كثيرةٌ إلى الاستفادةِ من خدمات السّحابات العالميّة التي أنشأت مراكز بيانات ضخمة في المنطقة تلبيةً لاحتياجات الأعمال، مع الالتزام في الوقتِ نفسِه بقواعد حماية البيانات وسيادتِها. وقد انطلقت عدّة مبادرات وطنيّة لتأسيس مراكز بيانات وبنى تحتيّة سحابيّة داخلية تمنحُ مُستخدميها ضمانات إضافيّة في شأن أمن معلوماتهم ومطابقتها للقوانين المحليّة.

وتتقاطع هذه المبادرات مع نموٍّ متسارعٍ في سوق إنترنت الأشياء، التي أضحت تؤدّي دورًا حاسمًا في ربط الخدمات والأجهزة وتوفير البيانات اللّازمة لتطوير تطبيقات جديدة مبنيّة على الذّكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضّخمة. ولانتشار شبكات الجيل الخامس في العديد من بلدانِ المنطقة دور بارز في تحفيزِ نموّ إنترنت الأشياء إذ يتيحُ إمكانات هائلة للتّفاعل مع الأجهزة الذّكية في المنازل والمصانع والمزارع والمكاتب، ما يمهِّدُ الأرضية لظهور منظوماتٍ اقتصاديةٍ أكثر حيويّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن