وجهات نظر

"المستبد العادل" بين الثقافي والسياسي

كثيرًا ما تكلّم العرب عن ظاهرة المستبد العادل، وكثيرًا ما روّج البعض لهذه الجملة باعتبارها تمثّل "باب الخروج" من الأزمات والتشتّت، وأنّ الحل سيكون على يد مخلّص أو رجل قوي حتى لو حمل لقب "المستبد العادل".

الحقيقة أنّ ظاهرة "المخلّص" عرفها كثيرٌ من المجتمعات والتجارب دون أن تستخدم بالضرورة تعبير "المستبد العادل" الذي عرفناه عربيًا، ففي القرون الوسطى عرف العالم نماذج كثيرة لهؤلاء المخلّصين، فكان منهم محاربون أشداء، وملوك وقادة اتّسموا بالشجاعة وأسّسوا لإمبراطوريات كبرى عاشت لقرون، وهنا لم يختلف الشرق عن الغرب.

وعاد هذا النموذج وأطلّ برأسه بصور جديدة في العصور الحديثة، فوجدنا قادة في القرن الماضي وصلوا للسلطة على اعتبار أنهم مخلّصين، ووجدنا منهم زعماء "الكوارث الكبرى" مثل هتلر الذي وصل بآلية ديمقراطية إلى حكم ألمانيا وروّج بأنه منقذ ألمانيا من الشروط التي كسرت كبرياءها عقب الحرب العالمية الأولى، وقال إنه سيبني نهضتها الجديدة، ولكنه سرعان ما أدخل البلاد والعالم في الحرب الأكثر بشاعة في تاريخ البشرية من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار الذي خلّفته.

هل العرب يفضّلون قيمة العدل حتى لو رُبطت بالاستبداد أكثر من قيمة الحرية؟

وهناك زعماء التحرّر الوطني الذي دعمهم الناس باعتبارهم منقذين أو مخلّصين مثل الجنرال ديجول الذي حرّر فرنسا من الاحتلال النازي ووصل للسلطة بآلية ديمقراطية وغادرها بهدوء وسلام، ويُنظر إليه باعتباره منقذ فرنسا ومؤسّس استقلالها ورمز كبريائها الوطني المعاصر.

كما عرف العالم العربي نموذج القائد المخلّص على يد جمال عبد الناصر الذي نال شعبية هائلة من المحيط إلى الخليج باعتباره بطل تحرّر وطني في مواجهة الاستعمار، واعتبره كثيرون قادرًا على تحقيق طموحاتهم في العدل والتقدّم والوحدة العربية، وبرّر البعض غياب الديمقراطية في عهده لكونها خارج التراث الثقافي العربي وانتشرت مقولة إننا نحتاج لمواجهة التحديات الكبرى إلى "المستبد العادل".

والحقيقة أنّ السؤال الذي كثيرًا ما طُرح هل قضية "المستبد العادل"، نتاج الثقافة العربية الإسلامية وأنّ العرب يفضّلون قيمة العدل حتى لو رُبطت بالاستبداد أكثر من قيمة الحرية؟؟.

والحقيقة أنّ الإرث الثقافي لأيّ أمّة من الأمم لا يشكّل بمفرده خياراتها السياسية، إنما هناك سياقات معاشة تعزّز من بعض القيم الثقافية، وهناك سياقات أخرى تعزّز من قيم أخرى، فيقينًا العالم العربي في عصر الاستعمار والاحتلال ومواجهة إسرائيل كان يبحث عن مخلّص أو منقذ حتى لو كان "مستبدًا عادلًا" فركّز على قيم العدالة في الموروث الحضاري العربي الإسلامي أكثر من قيمة الحرّية لأسباب مرتبطة بطبيعة التحديات التي واجهها في عصر التحرّر الوطني والأحلام الكبرى.

"أصل الداء" في مآسي العراق وليبيا هو صيغة "المستبد العادل"

والحقيقة أنّ الحديث عن المخلّص حتى لو كان "مستبدًا عادلًا" أطلّت برأسها مرة أخرى في أكثر من بلد عربي خاصة في البلاد التي تعاني من انقسام ومواجهات أهلية، ففي العراق يردّد البعض إنه بلد لا يمكن حكمه إلا بنظام صدام حسين جديد، وأننا بلاد لا تصلح فيها الديمقراطية إنما فقط الديكتاتورية تحت قيادة "مستبد عادل"، على اعتبار أنّ الوضع في عهد الرئيس صدام كان أكثر أمنَا وتقدمًا ورخاءً من الوضع الحالي، وهو جزئيًا صحيح لكنه ينسى أو يتناسى، أنّ نظام صدام حسين هو المسؤول الأساسي عمّا وصل إليه العراق من أزمات، فقد دخل في حرب 7 سنوات مع ايران وبمجرد انتهائها بأشهر معدودة قرّر أن يغزو الكويت ويشطبها من على خريطة العالم ثم نجحت قوات التحالف وبمشاركة عربية وبقرار من الأمم المتحدة أن تحرّرها فيما عُرف بحرب تحرير الكويت ثم قامت الولايات المتحدة بحصار العراق 10 سنوات حتى أصبح لقمة سائغة، فجرى غزوه في 2003 على يد القوات الأمريكية ودون الاستناد إلى شرعية دولية، وفكّكت مؤسسات الدولة العراقية، وحلّ مكانها مؤسسات هشّة خضعت لسطوه أحزاب المحاصصة الطائفية وظلّت تتحكّم في مصير البلاد 20 عامًا حتى وصلت هذه الصيغة إلى نهايتها.

ومع ذلك، ونتيجة تعثّر الحراك الشعبي في كسر المنظومة الطائفية التي قمعتها السلطة بشدّة وهيمنة الميليشيات الطائفية، أصبح الانقسام الحالي وضعف الدولة (النسبي) مبرّرًا للبعض أن يقول إننا نريد مستبدًا عادلًا يعيد الأمن والنظام وهيبة الدولة.

والحقيقة أنّ "أصل الداء" في مآسي العراق هو صيغة "المستبد العادل" (الذي ليس هناك ضمانة أن يكون عادلًا) وغياب الحد الأدنى من النقاش حول قرارات مصيرية مثل الحروب والغزوات، فالاستبداد هو الذي جعل لا أحد قادرًا على رفض قرار صدام حسين بغزو واحتلال الكويت، لأنه لا يوجد باحث مبتدئ في مجال العلاقات الدولية إلا وسيقول مستحيل أن يسمح للعراق باحتلال بلد نفطي ثري في قلب المنظومة العالمية مثل الكويت، حتى لو أعلنت أمريكا على سبيل الخداع عدم اهتمامها بالحرب.

"الحديث العراقي" نفسه تكرّر في ليبيا، فالصراع المسلّح بين فرقاء الساحة السياسية وضعف الدولة أو غيابها جعل البعض يقول إنّ الحل في إيجاد مستبد عادل جديد، وهي مقوله تتناسى أنّ بقاء القذافي 42 عامًا في السلطة وترويجه لنموذج "المستبد العادل" أضعف مؤسسات الدولة وأنهى أيّ فرق بينها وبين النظام السياسي، فحوّل الجيش إلى كتائب واستهدف بالأفكار الشعبوية (الجماهيرية) مهنية أجهزة الدولة من شرطة وقضاء وجهاز إداري، فكان سقوط نظامه مساويًا لسقوط تلقائي لأجهزة الدولة، وأنّ ما يجري في العراق وليبيا ليس فقط نتاج جرائم الاحتلال الأمريكي في الأولى أو تدخّل الناتو في الثانية، إنما أيضًا أو أساسًا بسبب طبيعة النظام الذي حكم في البلدين واستند في شرعيّته على نموذج "المستبد العادل" الذي ثبت بالدليل العملي أنه ليس بالضرورة عادلًا.

الوطن العربي يحتاج "مجدّدين" قد يحرّكون كثيرًا من المياه الراكدة

الحقيقة، مطلوب التمييز بشكل واضح بين منقذ أو مخلّص، وبين المستبد العادل بعد أن تغيّر شكل "المخلّصين" مؤخرًا في العالم خاصة في البلاد الديمقراطية، فظهر قادة وسياسيون من خارج المشهد السياسي التقليدي وقدّموا أنفسهم باعتبارهم مجدّدين للنظام القائم ومن خارج أطره التقليدية وقواه السائدة، وحملوا في طيات خطابهم معاني تقول إنهم "منقذين" لبلادهم من مساوئ النظام القائم ومن هيمنة النخب الحاكمة.

معيار نجاح هؤلاء متوقّف على عدم إعطاء أنفسهم أيّ حصانة خاصة تحوّلهم من خانة المجدّد إلى المستبد ولو العادل، والتزامهم بالآليات الديمقراطية وبقواعد دولة القانون التي كانت قادرة على ردع شطط بعضهم.

الوطن العربي يحتاج المجدّدين، ولكنه بالقطع لا يحتاج مرّة أخرى للمستبد العادل، والمجدّد حتى لو قدّم نفسه في صورة مخلّص أو منقذ سيظلّ مقبولًا بشرط احترامه لقواعد دولة القانون والديمقراطية، وهنا سنصبح أمام مجدّدين قد يحرّكون كثيرًا من المياه الراكدة في عالمنا العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن