بصمات

أوهام الانتصارات في الشرق الأوسط

كيف يمكن أن يكسب الشرق الأوسط السلام بعد الحروب والنزاعات والموت والقنابل الخارقة؟ وكيف يمكن أن تقود واشنطن الطريق نحو اتفاق سلامٍ شاملٍ بعد آخر جولة من التصعيد مع إيران، كنِتاجٍ آخر لضياع فرص السلام، وانتشار أشكال العنف المختلفة؟!.

أوهام الانتصارات في الشرق الأوسط

لسنوات، سادت فكرتان خاطئتان في الشرق الأوسط؛ أولًا، أنّ القوة وحدها قادرة على تحقيق الاستقرار والأمن، وثانيًا، أنّ دول المنطقة يمكن أن تبني مستقبلها على إيديولوجيا دينية متعصّبة. لذلك، غالبًا ما تكون الانتصارات العسكرية أوهامًا من الغلوّ والتطرّف، ولا تؤدّي إلى مجتمعاتٍ آمنةٍ ومستقرّةٍ وناجحة.

المخاطِر الناتجة عن الحرب لم تكن عسكريةً فحسب بل تكمن في تقديم صورة عن موازين قوى جديدة في المنطقة

إنّ المسار الذي تسلكه الأحداث الآن سيحدّد مستقبل العقود المقبلة، كما أعادت معاهدة "فرساي" تشكيل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى. اليوم، تقع منطقة الشرق الأوسط في قلب عدم الاستقرار العالمي، فمضيق هرمز هو شريان التجارة العالمية، والمنطقة في طور تحوّلٍ سريعٍ اقتصاديًا وديموغرافيًا، وتمتلك ثاني أسرع وتيرة نموّ في الناتج المحلي الٳجمالي في العالم، والناس في خضمّ هذا الصراع عالقون.

بعد أن قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقصف البرنامج النووي الإيراني، وفَرَضَ وقفًا لإطلاق النار بين إسرائيل وإيران (تجربة تُذّكر بقصف هيروشيما وناغازاكي في اليابان عام 1945)، لم تكن المخاطِر الناتجة عن الحرب عسكريةً  فحسب (بأن تتمكّن أميركا من استخدام ضربةٍ لوقف إيران عن بناء سلاح نووي)، بل تكمن في تقديم صورةٍ عن موازين قوى جديدة لتشكيل المستقبل في المنطقة.

القصف وحده من غير المرجّح أن يُعطّل قدرات إيران النووية بشكلٍ يُمكن التحقّق منه

التحدّي الآخر، بنيامين نتنياهو الذي فقد إنسانيّته، أَعْمَتْهُ الرغبة في الانتقام وهوسه بما يسمّى بأمن الدولة اليهودية، وتوجيهه من قبل وزراء اليمين المتطرّف، كدولة إرهابٍ تقصف وتدمّر في لبنان وسوريا واليمن وإيران، وتجوّع وتقتل النساء والأطفال الفلسطينيين، بينما لا يفعل المجتمع الدولي شيئًا.

يلعب ترامب دورًا من أجل إعادة تشكيل منطقةٍ خاليةٍ من النزاعات ونيل جائزة سلام لم يحقّقها أي من أسلافه. لكنّ الفوضى تولّد الغضب وتقوّض الاستقرار من خلال اختبار القوة وحدها، ويجب ألّا يُعمي وهم الانتصار الحالي عن الحقيقة الأساسية. فالقصف وحده من غير المرجّح أن يُعطّل قدرات إيران النووية بشكلٍ يُمكن التحقّق منه، كما أنّه لن يقضيَ على معرفتها التكنولوجية ودولٍ أخرى في بناء مفاعل نوويّة.

كان الغرض الحقيقي هو دفع النظام في إيران نحو استنتاج أنّ السلاح النووي لا يستحقّ العناء، ويجب أن يُحسم لصياغة اتفاقٍ نوويّ شاملٍ، ومن خلال رؤية شاملة للسلام والازدهار العالمي. هذا يعني أنّ على إسرائيل أن تنخرط في مفاوضات سلامٍ حقيقيّة. وطالما حُرِمَ الفلسطينيون من دولتهم، سيستمرّ الصراع في تغذية التوتّرات.

يجب على الدول أن تُجْلَب ٳلى رؤية أكثر جرأةً وطموحًا للمستقبل تشمل دولة فلسطينية قابلة للحياة

إنّ الذهاب إلى ما هو أبعد من التهدئة حطّم استراتيجية إيران المستمرّة منذ عقدَيْن لتوسيع نفوذها. لقد كلّفها برنامجها النووي عشرات المليارات من الدولارات، ولكنّه لم يجلب إلّا الدمار. كما أنفقت إيران عشرات المليارات الأخرى على دعم ميليشيات ووكلاء لها، وكان أحد الأهداف من الهجوم الإسرائيلي - الأميركي، هو ردعها مباشرة.

الآن، يجب على الدول أن تُجْلَبَ ٳلى رؤيةٍ أكثر جرأةً وطموحًا للمستقبل لا سيما مع الشركاء العرب، بهدف تحقيق هيكلٍ إقليميّ جديد. وتشمل هذه الرؤية دولةً فلسطينيةً قابلةً للحياة ووقف التوسّع غير القانوني للمستوطنات في الضفّة الغربيّة على عكس الاتفاقيّات السابقة، التي أدّت إلى سلام "الحديد والدم"، وأن يفهم القادة العسكريون الإسرائيليون، أنّ اعتمادهم على الحسم العسكري، لا يقوم فقط على القضاء على التهديد النوويّ القادم من طهران.

يمكن لترامب التأثير في خيارات إبرام صفقةٍ نوويّةٍ تصبّ في مصلحة الجميع، كجزءٍ من "كونسورتيوم" دولي خارج إيران أيضًا، ومحاولة توجيه الشرق الأوسط نحو مسارٍ جديدٍ غير الردّ المستمرّ بالقوة، ونحو إنهاءٍ دائمٍ للحرب. تحقيق ذلك سيكون صعبًا، لكن البديل مُخيف!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن