تقدير موقف

معبر رفح وحصار غزّة: لماذا يتجنّب المصريون والعرب قول الحقيقة؟

كاتب هذا المقال عروبي يؤمن بأنّ فلسطين هي محور الأمن القومي العربي كلّه، وبأنّ غزّة هي خط الدفاع الأول عن أمن مصر. وبالتالي فهو ليس معجبًا كثيرًا بالمسار العام للسياسة الخارجيّة منذ عهد السادات وحتّى الآن، والذي يجعل مواقف مصر أقلّ بكثير من قدراتها وقَدْرِها ومن حجم الآمال التي تعقدها عليها أمّتها. لكنّ ذلك أمر والخضوع إلى ادعاءٍ غير دقيقٍ بأنّ مصر، بصفتها الجار المباشر لمعبر رفح، هي المذنبة الوحيدة عن غلق المعبر وحصار ومجاعة غزّة، هو أمر آخر تمامًا.

معبر رفح وحصار غزّة: لماذا يتجنّب المصريون والعرب قول الحقيقة؟

اللّافت للنّظر أنّ مصر شاركت في جعل الإدعاء مُعلّقًا بامتناعها عن مكاشفة الشعوب العربية بالأسباب التي تفسّر أنّ فتح المعبر أكبر من قدرة نظامها على اتخاذه بمفرده. وانحصرت خطابات مستواه السياسي بين خطابَيْن: خطاب أخلاقي وديني لا يصلح في السياسة بخاصة لدفع تُهمةٍ خطيرةٍ مثل أنّ مصر هي التي تحاصِر وتسمح بحدوث المجاعة. فتمّ الحديث عن أنّ مصر مُخلصة وصادقة، ولا يمكن أن تخون الفلسطينيين، أو أنّ قادة مصر متديّنون لن يمنعوا الطعام عن أشقائهم لأنّهم يعلمون أنّ الله سيعاقبهم في الآخرة!. والخطاب الثاني هو الانغماس في المُساجلة عبر الإعلام مع تنظيم "الإخوان المسلمين" الذي يسعى، فيما يبدو، للاستفادة من محنة غزّة لأخذ ثأره من النظام القائم.

الذعر العربي مكّن أميركا من الانفراد بقيادة الحرب على غزّة وبقيادة المفاوضات لوقف الحرب في الوقت نفسه

امتناع مصر الرسمية عن شرح أسباب عدم قدرتها وحدها على تحدّي إسرائيل وفتح المعبر، تزامن معه عزوف مماثل من النُظُم العربية عن الإفصاح عن حقيقة تشاركها المسؤولية في هذا العار العربي.

في الأسباب البنيوية المُتراكمة التي تشمل النظام المصري والعربي:

- "7 أكتوبر" وتغيّر الموقف الاستراتيجي الأميركي: نتج التغيّر عن تحليلٍ لهذا الهجوم مفاده أنّه موجّه لأميركا قبل إسرائيل، ويهدّد هيمنتها على الشرق الأوسط والعالم. اتُّخذ قرارٌ بمشاركة إسرائيل بكامل جبروت القوة الأميركية من خلال مسارَيْن: المسار الأول هو التورّط العسكري المباشر في هذه الحرب كما أثبت الهجوم على إيران. والمسار الآخر هو عبور الخطوط الحمراء في دعم مخطّطات إسرائيل المتطرّفة، أيّ حتّى لو أدّى ذلك لتهديد استقرار أنظمة حلفائها العرب التابعين لها منذ نصف قرن. وكان أبرز دليل على ذلك تبنّيها، بخاصة في عهد ترامب، لتهجير فلسطينيي غزّة إلى مصر والأردن، مُغامِرةً بزعزعة وجود نظامَيْن حليفَيْن. هذا التطوّر كان مُرعبًا للنُظُم العربية وشكّل قيدًا على سلوكها في "طوفان الأقصى" وجعلها جميعها تقريبًا تمتنع عن تحدّي المسار الذي رسمته واشنطن، فمكّنها الذعر العربي من الانفراد بقيادة الحرب على غزّة وبقيادة المفاوضات لوقف الحرب في الوقت نفسه!.

- تغيير الوقائع على الأرض في رفح: في مايو/أيار 2024، احتلّت إسرائيل معبر رفح وممرّ فيلادلفيا، ولم يعُد هناك أي طرف فلسطيني على الجهة الأخرى من المعبر. قرأ الإسرائيليّون احتلال المعبر على أنّه اختراق تاريخي نحو تنفيذ التهجير من غزّة إلى سيناء، لن يسمحوا من خلاله لأحد بنسف ما يرونه خطوةً نحو التطهير العرقي ويهوديّة الدولة.

- فتح معبر رفح سيقود إلى حربٍ لن يقف أحد من العرب فيها مع مصر: ربما كان أكثر تفسيرٍ مصريّ يقترب من الحقيقة هو تصريح نسبته قناة "الجزيرة" إلى اللواء خالد مجاور، محافظ شمال سيناء، يقول فيه: "مفيش حاجة اسمها افتح المعبر بالعافية... يبقى أحارب بقى وبعدين أنا هحارب مين؟ هحارب أميركا وأضيّع مصر؟... مصر اللي حاربت في 48 و56 و67 و73. حاربت أربع حروب نظامية وعانت من حرب إرهاب 11 سنة وتأخّرت اقتصاديًا كثيرًا".

القاهرة والعرب يسيرون في طريق نزع سلاح المقاومة ويأملون في مقابلها إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح

في التقدير المصري إذن - دقّته متروكة للمتخصّصين - أنّه لو فُتح المعبر من دون موافقة إسرائيل، ستنشب حرب، وأنّ هذه الحرب، مع التغيّر الاستراتيجي الأميركي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ستكون مع أميركا نفسها. اللّافت أنّه يُفترض بداهةً أنّ هذه الحرب لو تمّت ستكون فيها مصر وحدها، وليس معها أحد من العرب. هذا التقدير ليس بعيدًا عن الحقيقة، فحتّى إذا نُحّيت الخلافات بين مصر ودول عربية رئيسيّة، والتي انتقلت من السرّ إلى العلن، فيكفي أنّ المصريين لاحظوا أنّ هذه الدول التي حذّرت من أنّ ضربةً عسكريةً لإيران قد تُهدّد ثرواتها واستقرار نُظُمها، لم تستطع فعل شيء عندما تجاهل نتنياهو وترامب هذه التحذيرات.

هندسة كيسنجر امتدّت لتغيير بنية النُظُم العربية من الداخل لضمان تبعيّتها للإمبراطورية الأميركية

باختصار الدول القديمة في النظام العربي مُفكّكة ولا تستطيع مساعدة نفسها، والدول الحديثة مُنخرطة في الاتفاقات الإبراهيمية أو تتهيّأ لها، وهي لن تدخل في حربٍ مع حاميها الأمني من أجل مصر... المصريون في هذا يعرفون أنّ كل النُظُم العربية تنتمي إلى معسكرها الإقليمي نفسه المرتبط بأميركا والذي يتخفّف منذ 50 عامًا من عبء فلسطين ويعتبرها صراعًا فلسطينيًا – إسرائيليًا، وأنّ الخيار الذي لن يحيدوا عنه جميعًا هو "خيار السلام"!. ولهذا فإنّ القاهرة تعرف أنّها والعرب يسيرون في طريق نزع سلاح المقاومة التي أحرجت النُظُم العربية في ربع القرن الأخير، ويأملون في مقابلها إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ ما منزوعة السلاح.

الطبقات الحاكمة ورهاب الحرب

- وحدات النظام العربي الذي هندسه هنري كيسنجر لديها رهاب مخيف من الحرب: هذا سبب يجمع النُظُم العربية، ومنها النظام المصري، ويجعل فكرة فتح المعبر بالقوة غير مطروحةٍ أصلًا على مؤسّسات هذه الدول، سواء العسكرية أو المدنية. فهندسة كيسنجر لم تقف عند فرض سلام الـ"خطوة - خطوة"، ولكن امتدّت لتغيير بنية هذه النُظُم من الداخل لضمان تبعيّتها للإمبراطورية الأميركية. هذا التغيير سار في اتجاهَيْن طبقي وثقافي.

نخبة وَضَعَت فمها في أذن الحُكّام ومهمتها إلقاء الرّعب في قلوبهم من الخروج على خط التسوية

طبقيًا، لاحظ الأميركيون أنّ قيادة مصر لحركة التحرّر نحو المواجهة مع إسرائيل ودعم المقاومة تمّت فقط عندما تسلّمت الحُكم نخب البورجوازية الصغيرة الثورية المُعادية للإقطاع، وأنّها استطاعت حشد العمال والفلاحين وراء العداء لإسرائيل والإمبريالية. فسعت واشنطن عبر سياسات الانفتاح لإنشاء طبقةٍ رأسماليةٍ مرتبطةٍ بالمركز العالمي، لا تتّفق مصالحها في الاستحواذ على الثروة مع الحرب والمقاومة.

ثقافيًا، تمّ خلق نخبةٍ وضعت فمها في أذن الحُكّام، ومهمتها هي إلقاء الرّعب في قلوبهم من الخروج على خط التسوية أو التفكير في العودة لسياسة الاستقلال عن الغرب.

زادت الضربات الأميركية - الإسرائيلية لإيران من رهاب هذه الطبقات، خصوصًا بعد انكشاف اختراقاتٍ مُخيفةٍ في قلب الدولة الإيرانية.

تساءل هؤلاء: إذا كان بلد في حالة استنفار للحرب منذ 1979 يحدث فيه ذلك، فما بال العرب الذين دخلوا في "استرخاء" حالة السلام، ولا يتوقّف الإسرائيليون عن زيارتهم والتجسّس عليهم؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن