تقدير موقف

نتنياهو ورؤية "إسرائيل الكبرى"!

في مقابلةٍ مع قناة "i24 News" الإسرائيلية في 12 أغسطس/آب 2025، صرّح نتنياهو أنّه "مرتبط جدًا برؤية إسرائيل الكبرى"، وأنّه يشعر بأنّه في "مهمةٍ تاريخيةٍ وروحية". وأثار هذا التصريح ردود فعلٍ كثيرةٍ ومُتنوعةٍ في الإعلام العربي والدولي، وأعاد إلى الأذهان الجدل في الفكر اليهودي والصهيوني حول مفهوم إسرائيل الكبرى.

نتنياهو ورؤية

تعود الجذور الدينية لهذا المفهوم إلى بعض نصوص العهد القديم، أبرزها: "الإصحاح 15-18 من سفر التكوين"، والذي يعرف باسم "العهد مع إبراهيم"، وذلك إلى جانب نصوصٍ أخرى في سفر العدد وسفر يشوع. تُشير هذه النصوص إلى أرض بني إسرائيل بكونها أكثر اتساعًا من مساحة فلسطين. واختلف كبار الحاخامات حول تفسيرها وعمّا إذا كانت ذات طابع رمزي تعبّر عن بركة الله، أم أنّ تحقيقها هو واجب ديني.

فلاديمير جابوتينسكي أكد أنّ إسرائيل يجب أن تشمل أراضي الانتداب البريطاني والتي تشمل شرق الأردن

تبنّى مفكرو الصهيونية التفسير الثاني، ووظّفوه لخدمة مشروع إقامة إسرائيل، ثمّ طرح حجّة أنّ إسرائيل هي الخطوة الأولى نحو تطبيق نبوءات التوراة. وعلى الرَّغم من أن ديفيد بن غوريون أوّل رئيسٍ لوزراء إسرائيل كان ممثِلًا لتيار الصهيونية العِلمانية، فإنّ مواقفه وتصريحاته تماشت مع هذه الرؤية. فلم يتضمّن إعلان إقامة الدولة الذي قرأه بن غوريون إشارةً إلى حدودها، وربط في بعض تصريحاته بين حدود إسرائيل وحدود الإنجازات العسكرية.

أمّا الصياغة الأكثر صراحةً ووضوحًا لرؤية إسرائيل الكُبرى، فقد بلورها تيار الصهيونيّة التصحيحيّة المُتشدّدة ومؤسسها فلاديمير جابوتينسكي في مطلع القرن العشرين، فانتقد قيادات الحركة الصهيونية مؤكّدًا أنّ الدولة والسيادة اليهودية لن تُبنى بالمساومات والتنازلات، ولكن من خلال فرض الأمر الواقع السياسي والعسكري. ودعاها لأن تكون أكثر جرأةً، وأنّ أرض إسرائيل يجب أن تشمل الأراضي المشمولة بالانتداب البريطاني والتي تشمل شرق الأردن، وذلك باعتبار أنّ لليهود حقًا تاريخيًا في هذه الأرض.

تلقّت رؤية إسرائيل الكُبرى دفعةً قويةً بعد احتلال إسرائيل للضفّة الغربية وغزّة في حرب 1967. وقام عددٌ من قادة إسرائيل بالتعبير عنها، وكان من أبرزهم مناحيم بيغن، التلميذ المُخلص لجابوتينسكي، الذي تولّى رئاسة حزب الليكود، وانتُخب رئيسًا للوزراء عام 1977، فكان أوّل رئيس وزراء من أحزاب اليمين بعد سيطرة حزب العمل على الحكم قرابة ثلاثة عقود. انطلق بيغن من مفهوم "أرض إسرائيل الكاملة"، فدعا إلى ضمّ غزّة، والقدس، والضفّة الغربية، التي يُطلق عليها في الفكر الصهيوني تعبير "يهودا والسامرة" باعتبار أنّ الأرض الممتدّة بين نهر الأردن والبحر المتوسط ينبغي أن تكون تحت السيادة الإسرائيلية، وأنّ التوسّع فيها ليس عملًا عدوانيًا، بل "عودة لأرض الآباء".

يمزج نتنياهو في خطابه بين "الوعد التوراتي" واعتبارات السياسة العملية والأمن

واستمرارًا له، أكّد نتنياهو دومًا أنّ أرض إسرائيل تمتدّ من البحر إلى النهر، وأن الضفّة الغربية جزءٌ لا يتجزّأ من أرض إسرائيل، ويصرّ على أن "القدس الموحّدة" هي عاصمة إسرائيل الأبدية، ولا يوجد مجال لتقسيمها مرة أخرى. وفي عام 2018، أقرّ الكنيست "قانون أساسٍ" بعنوان "إسرائيل - الدولة القومية للشعب اليهودي"، والمعروف باسم "قانون القومية"، والذي أكّد على الطابع اليهودي لإسرائيل، وأنّ حقّ تقرير المصير في أرض إسرائيل يقتصر على الشعب اليهودي، وجَعَلَ العبرية هي اللغة الرسمية الوحيدة للدولة.

يمزج نتنياهو في خطابه السياسي بين "الوعد التوراتي" من ناحيةٍ، واعتبارات السياسة العملية والأمن من ناحيةٍ أخرى، فيعتبر أنّ السيطرة على الضفّة الغربية ضرورة وجودية. ويكشف عن ذلك في كتابه "مكان تحت الشمس" الذي صدر بالعبرية عام 1995، وذهب فيه إلى أنّ الأرض الواقعة بين النهر والبحر المتوسط هي "أرض اليهود التاريخية". واستدعى المرجعيات الدينية والتاريخية لتبرير موقفه، مثلما فعل في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما أشار إلى "نبوءة إشعياء" لتبرير الحرب على غزّة، وأنّها تبشّر بغدٍ أفضل.

واتصالًا بذلك، فقد صرح بتسلئيل سموتريتش وزير المالية في 2024، بأنّ ضمّ الضفّة الغربية هو مؤكّد، ولكن بالتدريج، وأشار إلى إمكانية التوسّع في مناطق تقع حاليًا في سوريا. وفي الاتجاه نفسه، يدعو إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي إلى ضمّ كلّ أو أغلب أجزاء الضفّة الغربية وقطاع غزّة وإلغاء السلطة الفلسطينية، ووصف فكرة إنشاء دولة فلسطينية بأنّها "خيالية"، كما تحدّث بصراحةٍ عن استعادة السيطرة على كل أراضي إسرائيل.

تنفيذ رؤية إسرائيل الكبرى يتوقّف على توازنات القوى الدولية والمقاومة الفلسطينية على الأرض

ومع استمرار صعود التيار اليميني المتطرّف في الرأي العام والانتخابات البرلمانية، طفا إلى السطح تعبير "من النيل إلى الفرات" كتعبيرٍ رمزيّ لرؤية إسرائيل الكُبرى التي تتجاوز فلسطين التاريخية، ولكن ليس كخطةٍ سياسيةٍ أو برنامجٍ للعمل. إذ تبدو أنّ الأولوية في هذه المرحلة، هي ضمّ واستيعاب الضفّة الغربية والسيطرة الفعلية على غزّة، بينما تدعو قوى أقصى اليمين إلى ضرورة التمسّك بحرفيّة "الوعد التوراتي" في سيطرة بني إسرائيل على الأرض بين النيل والفرات، على أمل أن يتحقّق ذلك مستقبلا.

يستخدم قادة إسرائيل رؤية إسرائيل الكُبرى كأداةٍ للحشد والتعبئة السياسية، ودغدغة المشاعر الدينية لليهود، وتوفير التبرير الإيديولوجي للتوسّع وضمّ أراضي الغير، غير أنّ تنفيذ هذه الرؤية يتوقّف على عوامل القوّة العسكرية لإسرائيل، وتوازنات القوى الدولية، والمقاومة الفلسطينية على الأرض، والدعم العربي والعالمي لها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن