وجهات نظر

هل ستغيّـر عملية غزّة في معادلات السياسة؟

هي المرّة الأولى في تاريخ المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية التي يكون فيها ضحايا الدولة العبرية أكبر بكثير من الضحايا الفلسطينيين، صحيح أن إسرائيل عادت عبر غاراتها الوحشية لتجعل أرقام الشهداء الفلسطينيين تتضاعف، إلا أنّ ذلك لا يمنع أنّ عملية "طوفان الأقصى" ستشكّل تحولًا كبيرًا في تاريخ المواجهات بين دولة الاحتلال والمقاومة، ليس فقط من زاوية عدد الضحايا الإسرائيليين الذين سقطوا إنما في نجاح "حماس" في خداع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وتقديمها لعملية احترافية شديدة الدقة حققت فيها نجاحًا غير مسبوق.

هل ستغيّـر عملية غزّة في معادلات السياسة؟

لقد ابتعدت حركة "حماس" عن المواجهات الثلاثة السابقة (٢٠١٩ و ٢٠٢٢ ومايو الماضي) بين "الجهاد" والجيش الإسرائيلي حتى خرجت كثير من الكتابات الغربية تعتبر فيها أن "حماس" أصبحت قوة "عازلة" و"محايدة" بين فصائل المقاومة وإسرائيل، ولم يتوقع الكثيرون أنها ستدخل في أي مواجهه عسكرية جديدة مع الدولة العبرية.

وقد تكون عملية "حماس" الأخيرة هي الأكثر تأثيرًا في الرأي العام العربي منذ انتفاضة الأقصى في عام ٢٠٠٠، حيث أخرجت مشاعر تضامن ودعم شعبي كبيرين وأيضًا مشاعر غضب في مواجهه سلطة الاحتلال الإسرائيلي والسلطات المتحالفة معها داخل النظام الرسمي العربي بسبب جرائم الأولى وتقاعس الثانية.

المطلوب أن يُستفاد من معركة غزة من أجل إجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال وإعادة الحقوق للشعب الفلسطيني

ومع ذلك فإنّ هذا التعاطف العربي الكبير مع ما جرى لم يمنع من طرح البعض لسؤال "ثمن" أي عملية عسكرية تقوم بها فصائل المقاومة مع قوات الاحتلال، وأنّ هناك من يرى أن لا عائد من وراء عمليات المقاومة المسلّحة نتيجة الأثمان الباهظة التي يدفعها أبناء الشعب الفلسطيني دون عائد سياسي، وأنّ انتفاضة الحجارة الشعبية هي التي فتحت الطريق أمام المسار السياسي والاعتراف بمنظمة التحرير والتوقيع على اتفاق أوسلو في ١٩٩٣.

والحقيقة أنّ هذا الرأي فيه جانب صواب يتعلق بمسار أوسلو الذي دخل الجميع تحت مظلّته بمن فيهم من عارضوه مثل "حماس"، لكن الجانب الخطأ يتعلّق بحسابات المواجهة بين قوى المقاومة والتحرّر الوطني وبين الاحتلال، وأنها لا يمكن أن تُقاس أساسًا بحجم الخسائر البشرية أو المادية، فقد خسرت الجزائر مليون شهيد من أجل حرّيتها واستقلالها ولم يقس أحد معيار الانتصار على حجم الخسائر التي مُني بها الطرف المقاوم، كما أنّ الخسائر العسكرية للجيش المصري في سيناء أثناء حرب ١٩٥٦ تمّ تعويضها بالصمود الشعبي والانتصار السياسي.

إنّ الثمن الذي تدفعه الشعوب من أجل حرّيتها ليس هدفًا في ذاته، إنما الهدف هو الاستقلال والتحرّر، وإنّ هذا لن يتحقّق إلا ببناء جسم سياسي يستطيع أن يحوّل المواجهات المسلّحة إلى انتصار سياسي كما فعلت جبهة التحرير الجزائرية التي صنّفها الفرنسيون في البداية كمنظمة إرهابية ولكنها فرضت نفسها كممثل لنضال الشعب الجزائري، وكما فعل عبد الناصر في ٥٦ حين حوّل الهزيمة العسكرية إلى انتصار سياسي ساحق وعالمي.

من هنا فإنّ قوة العملية الفلسطينية وقسوة ردّ فعل إسرائيل لن يحلّا في ذاتهما القضية الفلسطينية، فالأولى لم تنجح حتى اللحظة في انتزاع مسار سياسي، والثانية لن تستطيع أن تصفّي القضية الفلسطينية مهما هجّرت وقتلت.

إنّ عودة فصائل المقاومة لنيل دعم وتعاطف شعبي عربي كبير لا يمثّل في ذاته حلًا سياسيًا للقضية الفلسطينية، لأنّ المطلوب أن يُستفاد من معركة غزة من أجل إجبار إسرائيل على إنهاء الاحتلال وإعادة الحقوق للشعب الفلسطيني وعلى رأسها حقه في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وهو أمر لا تبدو هناك أي مؤشرات على حدوثه، وذلك لسببين رئيسين:

الأول؛ يتعلق بالدولة العبرية، فإسرائيل لم تصل بعد للنقطة التي تُراجع فيها نفسها وتقول بعد كل هذه المواجهات والضحايا والقتلى أنها بحاجة للسلام وترغب في دفع استحقاقاته، إنما هي لا زالت تحكمها "غطرسة القوة" والتي جعلت كاتبًا إسرائيليًا يغرّد خارج السرب الصهيوني وهو "جدعون ليفي" يكتب في صحيفة "هآرتس" معلّقا على الهجوم الفلسطيني: "لقد نجح عدة مئات من المسلّحين الفلسطينيين في اختراق السياج الحدودي وغزوا إسرائيل، وأثبتوا أنه من المستحيل سجن مليوني إنسان إلى الأبد، دون دفع ثمن باهظ".

وأضاف: "إنّ اسرائيل تعاقب غزة منذ عام ١٩٤٨، دون توقف للحظة واحدة. ٧٥ عامًا من التنكيل، وإنّ التهديدات الحالية تثبت أمرًا واحدًا فقط: أننا لم نتعلّم شيئًا. إنّ الغطرسة موجودة لتبقى، حتى بعد أن دفعت إسرائيل ثمنًا باهظًا".

يمثّل العدوان الإسرائيلي على غزة ومحاولات تفريغه من سكانه ومحوهم من الوجود، السياسة المعتمدة في إسرائيل، وأصوات مثل "ليفي" وقلّة مثله باتت معزولة تمامًا عن المجتمع الإسرائيلي الذي بات في غالبيته العظمى يؤيّد سياسة عدوانية لا تحمل أيّ أفق للتسوية إنما تتجه نحو مزيد من التطرّف والعنف ودعم سياسة "إرهاب الدولة" بحق الشعب الفلسطيني.

أما الثاني؛ فيتعلق بالجانب الفلسطيني، إذ لا زالت أزمة الانقسام بين "فتح" و"حماس"، والضفة وغزة حاضرة وتضعف من قوة أي مفاوض فلسطيني، وهو ما اعتبرته إسرائيل حجّة لتقول إنه لا يوجد شريك فلسطيني، كما أنّ جمود السلطة الفلسطينية وعدم تجديد قيادتها ورفض المجتمع الدولي التعامل مع "حماس"، واعتبارها منظمة إرهابية جعل هناك أزمة في التمثيل السياسي للمقاومة الفلسطينية المسلّحة.

الدولة العبرية هي المسؤولة عن يأس قطاع واسع من الفلسطينيين من جدوى التفاوض والحلول السلمية

إنّ الدعاية الصهيوينة في الغرب عقب عملية "حماس" كانت شديدة القوة والتأثّر "ومسكت" في الضحايا الإسرائيلين المدنيين وروّجت لأكاذيب عن قتل عناصر "حماس" لأطفال وقطع رؤوس، وثبت بالدليل القاطع أنه لم يحدث.

ومن هنا، فإنّ إنشغال إسرائيل بالدعاية الكاذبة وبقتل الشعب الفلسطيني وعدم استعدادها لدفع استحقاقات السلام، بجانب انقسام الجانب الفلسطيني وعدم قدرته على تقديم جسم سياسي يستفيد من أي مواجهه مسلّحة سيعني عدم تغيّر المعادلات الحالية.

لقد دمّرت إسرائيل جدوى خيار الاعتدال والتفاوض، لأنه أصبح بالنسبة لكثيرين لا يمثّل أيّ مكسب للقضية الفلسطينية، بما يعني أنّ الدولة العبرية هي المسؤولة عن يأس قطاع واسع من الفلسطينيين من جدوى التفاوض والحلول السلمية، وإنّ الحل سيكون بالمقاومة المسلّحة حتى لو لم تُترجم في انتصار سياسي..

ستقتصر معادلات السياسة في الوقت الراهن على محاولات إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من ديارهم -وستفشل- ولا زلنا بعيدين عن أي مشروع سياسي للتسوية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن