تقدير موقف

جيوسياسية تقنية "النانو": الصراع العالمي على مستقبل الصناعات!

معلوم أنّ تكنولوجيا الـ"نانو" هي مجال صراع دولي بامتياز، إذْ يتعلّق الأمر بتقنيةٍ ثورية، تعمل على تغيير مسار الصناعات وحقولٍ عدّة. ولقد تحدّث عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان (Richard Feynman)، في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، عن تقنيّة النّانو، أثناء محاضرةٍ بعنوان "ثمّة مجال واسع في القاع"، وذلك في أحد لقاءات الجمعية الفيزيائية الأميركية، في أواخر الخمسينيّات. ونبّه فاينمان إلى أهمية علمٍ جديد، وهو "علم الأشياء المُتناهية الصِغَر"، ولقد ارتبط هذا الاهتمام بفيزيائية الأشياء المُتناهية في الصِغَر، في سياقٍ علميّ آخر، هو نشأة وتطوّر علم الأحياء الدقيقة، واكتشاف كائناتٍ عن طريق المجهر.

جيوسياسية تقنية

كلمة "نانو"، هي من اللغة اليونانية وتعني "القزم"، وأصبحت النانو تعبيرًا عن النانومتر، أي وحدة الطول للأشياء المُتناهية في الصِغَر، ولذلك يقول مايكل جيه سايلور (Michael J. Saylor) وهو من علماء النانو، "عند الحديث عن تكنولوجيا النانو، نشير بذلك إلى أشياء يتراوح حجمها تقريبًا ما بين بضعة نانومترات و100 نانومتر. وهذا أصغر على الأقل، بـ500 مرة من سمك شعرةٍ واحدةٍ من شعرِك. ومن المؤكّد أنّه يوجد نظام أحجام مُعيّن نعمل في نطاقه نحن علماء تكنولوجيا النانو، ولكن لا يُغنينا هذا الحجم المحدّد، بل الخواص الفريدة المشتقّة من هذا الحجم". وقد ساهم البحث الأكاديمي المُعمّق في حقل "النانو" في فتح مجالاتٍ لم تكن في الحسبان، فأصبح بالإمكان اختراع آلاتٍ متناهية الصِغَر.

امتدّ تأثير النانو تكنولوجيًّا إلى مجال الطب، حيث عملت الشركات الكبيرة في مجال صناعة الأدوية والأجهزة الطبية، على تطوير واختراع آلاتٍ ذكيةٍ مُتناهية الصِغَر، بحيث يمكن توصيل الدواء مباشرةً إلى الخلايا المُستهدَفة، ممّا يساهم في تحقيق الفعّالية والتقليل من الآثار الجانبية، ومن ذلك معالجة بعض أنواع السرطان، من دون إحداث تلفٍ للخلايا السليمة. ويتوقع الباحثون تطوير هندسة الأنسجة، التي تعمل على ترميم الأنسجة المريضة وإصلاحها وكذلك تجديدها؛ وسيطوَّر مجال مراقبة الأمراض وتشخيصها، عبر ابتكار "آلاتٍ ذكيةٍ نانونيّة"، ترصد تشخيص الأمراض، وتطوّرها. ولذا يركّز تيار ما بعد الإنسانيّة، على الطب النانوني، في خطابه حول إمكانية تحسين الوظائف العضوية البشرية وتجاوز الشيخوخة، بل وحتّى تحقيق عمرٍ طويلٍ وأبديّ!.

هناك تنافس كبير بين القوى الكبرى في تطبيق تكنولوجيا النانو في الصناعات العسكرية

لذا، هناك تنافسٌ كبيرٌ بين الشركات العالمية، في تطوير واختراع "الروبوتات النانونية"، والتي يتمّ تصنيعها من مواد كيميائية مُتعدّدة. وتشمل الشركات الكبرى في تقرير سوق الروبوتات النانونية، شركات مثل "Bruker" و"Jeol Ltd" و"Ev Group" و"Nanonics Imaging" وغيرها.

وهناك هيمنةٌ ملحوظةٌ في السوق العالمية، للشركات الأميركية ثم تليها الشركات الأوروبية التي طوّرت منتجاتٍ نانونيّةً تهتمّ بالسرطان، ثم شركات آسيوية مثل شركة "Muse Nanobots" وهي شركة هندية تأسّست سنة 2020؛ من طرف شركة "IIT Madras". ومن المتوقّع أن تجذب الشركات المتخصّصة في الطبّ النانوني، استثماراتٍ هائلة؛ وستحدّد طبيعة السياق العالمي في المجال.

هناك تطبيقات أخرى لتكنولوجيا النانو في صناعة الملابس والأغذية والزراعة والبيئة وصناعة السيارات والطائرات والسفن وهندسة البناء، حيث تعمل الشركات على إنتاج مواد صلبةٍ وقويّة. كما أنّ هناك تنافسًا كبيرًا بين القوى الكبرى، في تطبيق تكنولوجيا النانو في الصناعات العسكرية، إذ أكد بعض الدراسات، ومنها دراسة "سانجيف تومار" (Sanjiv Tomar)، الصادرة عن "معهد دراسات وتحليلات الدفاع الهندي"، بعنوان "النانو تكنولوجي، المجال الناشئ لمستقبل التنظيمات العسكرية"، على اهتمام 60 دولة بهذا المجال، ومن ضمنها أستراليا والمملكة المتحدة وفرنسا وهونغ كونغ وسنغافورة وإسرائيل وإيران وتايلاند وتايوان.

أميركا تُنفق جزءًا مهمًّا من ميزانية الدفاع في تقنية النانو والصين صنعت هياكل النانو الأقوى مئة مرّة من الفولاذ

هناك ريادةٌ للولايات المتحدة الأميركية، التي صاغت سياسةً حول "النانو تكنولوجي"، بشكلٍ مبكرٍ، تم خصّصت ميزانيةً كبيرةً ما بين 2001 و2013، تجاوزت 17 مليار دولار، لتطوير أبحاث تكنولوجيا النانو. ويحظى "معهد تكنولوجيا النانو للجنود"، بدعم وزارة الدفاع الأميركية. وتشير تقارير إلى إنفاق البحرية الأميركية وحدها، ما يقارب 9 مليارات دولار، على مشاريع تقنية النانو العسكرية. وعمومًا، لا نجد أرقامًا رسميةً، لكنّ أميركا تُنفق جزءًا مهمًّا من ميزانية الدفاع (حوالى 800 مليار دولار سنة 2024)، في مجال تقنية النانو.

أمّا الصين، فهي من أسرع الأسواق نموًّا في مجال النانو، وتستثمر كثيرًا في المجال العسكري، ومن ذلك المواد الخارقة، والأقمار الصناعية النانونية، وسترات التخفي، والأسلحة الصغيرة. ومنذ سنة 1989، أسّست "مُضاعف القوة الذرّية"، و"مجهر المسح النفقي"؛ واستطاعت صناعة هياكل النانو، والتي تعتبر أقوى مئة مرّة من الفولاذ.

من جهتها، شرعت روسيا في عهد بوتين، ومنذ عام 2007، في تخصيص ميزانية للنانو، وتطوير وقود الصواريخ، والزيّ العسكري، وتصنيع سترات النانو لطائرات الميغ والسوخوي. وهناك ارتفاعٌ في ميزانية الدفاع الروسية، حيث بلغت 145 مليار دولار، أي 30% زيادة عن ميزانية 2024؛ وليس هناك رقمٌ معلنٌ عن الاستثمار في مجال النانو.

أمّا اليابان، فإنّها شرعت في الاهتمام بتقنية النانو منذ عام 2001، وتُعتبر من أولويات الحكومة، وذلك ضمن المبادرة الوطنية لتقنية النانو، وتنفق مليارات الدولارات على تحسين وتطوير البحث العلمي، وتدعم الشركات الصغرى والمتوسطة في ذلك. وتستثمر اليابان في التطبيق العسكري للنانو، في مجال روبوتاتٍ نانونيّة، وأنظمة الإشعار والاتصالات والقيادة الذّكية مع الالتزام بالقيود الدستورية التي تمنع تطوير الأسلحة الهجومية.

الاتحاد الأوروبي يستثمر في أجهزة إشعار نانونية والكترونيات دقيقة والحماية من المخاطر النووية عبر مواد نانونيّة

ويعود اهتمام الاتحاد الأوروبي بتكنولوجيا النانو، إلى سنة 1996، حين أُدرجت في السياسات العلمية للاتحاد وأُطلقت خططٌ عدّة، مثل الخطة الإطارية السادسة والسابعة، وبرنامج "أفق 2000" وبرنامج "FP7"، وإطلاق "قانون الرّقائق" الذي سعى إلى مضاعفة إنتاج الرّقائق الإلكترونية بحلول 2030؛ وضخّ حوالى 90 مليارًا كاستثمارٍ في المجال، ويُعتبر مركز "IMEC" البلجيكي، من أهمّ مراكز الاتحاد الأوروبي في مجال الرّقائق، التي تعتمد على النانو.

ويستثمر الاتحاد الأوروبي في التطبيقات العسكرية للنانو، في أجهزة الإشعار النانونية والمواد المتقدّمة، مثل الدروع وهياكل الطائرات والصواريخ؛ ثم الإلكترونيات الدقيقة، والحماية من المخاطر النووية والكيماوية والحرب الإلكترونية والأسلحة والذخائر المتقدّمة، عبر مواد نانونيّة مثل "النانوثرميت".

وهناك دولٌ أخرى آسيوية، تستثمر في تقنية النانو وتطبيقاتها العسكرية مثل الهند التي شرعت في ذلك منذ عام 2001، وباكستان منذ عام 2003، وكوريا الجنوبية التي أطلقت بدورها مبادرة تقنية النانو الوطنية الكورية سنة 2000.

وتُعتبر السعودية رائدةً في مجال الاستثمار في النانو، حيث أنشأت "معهد الملك عبد الله لتقنية النانو" منذ 2007، وتملك حوالى 30 مركزًا عِلميًا في تطوير الأبحاث النانونية، كما هناك تعاون بين مصر والسعودية، مثل مشروع "نانومان إيجيبت الشرق الأوسط". وأسّست مصر أوّل كلية للدراسات العليا في علوم النانو. وكذلك أنشأت الإمارات العربية المتحدة "مركز الإمارات لعلوم النانو"، وتستثمر بشكلٍ كبيرٍ في التطبيقات الصناعية للنانو. وهناك جهودٌ ملحوظةٌ في الكويت وقطر والأردن وتونس والجزائر والمغرب، حيث تزايد الاهتمام بتطبيقات النانو في الصناعة والطب والطاقة والزراعة.

على الدول العربية تبنّي سياسة موحّدة وإنشاء صندوق استثماريّ مشترك وتشجيع البحث العلمي في تقنية النانو

هناك تفاؤل لبعض الخبراء، بخصوص إمكانيّة استفادة دول العالم الثالث من ثورة النانو، وذلك في معالجة المياه والبيئة، وتحسين الخدمات الصحية، وزيادة الإنتاج الزراعي. لكن، على الرَّغم من ذلك، هناك دراساتٌ عدّة، ومن ضمنها دراسة لليونسكو تشير إلى اتساع الفجْوة بين الدول الكبرى ودول العالم الأُخرى، بسبب ثورة النانو والتكنولوجيا الجديدة. فالدول المتقدمة، لديها إمكانيات مالية ضخمة، ولديها قدرة على الاستثمار في مجال النانو، بينما الدول الصغيرة والمتوسطة ليست لها قدرة على ذلك. كما أنّ الصناعات الناشئة في دول العالم الثالث لن تستطيع منافسة التقدّم الهائل للصناعات النانونية، وبالتالي سيتمّ تكريس وضع التبعيّة والاستهلاك. كما ستتعمّق الأزمة الاجتماعية بسبب فقدان فرص العمل في دول الجنوب.

من الممكن تقليص الفجوة، إذا اعتمدت دول الجنوب سياسة التعاون والتصدّي لمخاطر تقنية النانو. ويتعيّن على الدول العربية تبنّي سياسةٍ موحّدةٍ في هذا المجال، وإنشاء صندوقٍ استثماريّ مشتركٍ؛ وتشجيع البحث العلمي في تقنية النانو. لكن يُحذّر العلماء من مخاطر النانو، إضافةً إلى التحدّيات الأخلاقية المرتبطة بهذه التكنولوجيا، ممّا يقتضي التفكير في ميثاقٍ أخلاقيّ عالميّ لاحتواء مخاطر النانو وتداعياتها الجيوسياسية والجيواقتصادية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن