استوحت إسرائيل اسم هذه العملية "الأسد الصاعد" من نصوص العهد القديم "التوراة". في أحد نصوص العهد القديم، جاء فيه: "وَيَرْتَفِعُ كَأَسَدٍ لاَ يَنَامُ حَتَّى يَأْكُلَ فَرِيسَةً وَيَشْرَبَ دَمَ قَتْلَى" (سفر العدد: الإصحاح 23/24)، وأتى ذلك في سياق نبوءة لبلعام بن باعوراء، وهو نبي وعرّاف تنبّأ بقوة إسرائيل وسلطانها، شبّهها بأسدٍ لا يهدأ حتى يُشبع جوعه وينتقم من أعدائه.
الأسد في المخيال الديني اليهودي
يحتلّ الأسد مكانةً مركزيةً في المخيال الديني اليهودي منذ العصور القديمة. ففي سفر التكوين (الإصحاح 9:49) يقول يعقوب عند مباركته لأبنائه: "يهوذا، جرو أسد... جثا وربض كأسد، كلبوة، من يُنهضه؟". ومن هنا ارتبط يهوذا - السبط الذي خرج منه داود والنسب الذي يُفترض أن يخرج منه "المسيح المنتظر" - بالأسد. وأصبح "أسد يهوذا" رمز القوة والحماية والشرعية الإلهية للقيادة اليهودية.
حكومات نتنياهو استعادت رموزًا دينية أسطورية من التاريخ اليهودي لمواجهة التحدّيات
ومع أن الصّهيونيّة في بداياتها كانت علمانية الطابع، فإنّ القيادات الإسرائيلية، بخاصة منذ سبعينيّات القرن العشرين، بدأت في إعادة توظيف الرموز الدينية في خطابها السياسي لتحقيق أهدافٍ متعدّدة، منها إضفاء شرعيةٍ دينيةٍ على السياسات الأمنية، وتعبئة المجتمع الإسرائيلي تحت رايةٍ موحّدةٍ تتجاوز الخلافات الإيديولوجية، وتأكيد الرواية التوراتية لحقّ اليهود في "أرض إسرائيل".
هذا التوظيف تزايد بعد صعود التيّارات الدينية القومية وأحزاب مثل "البيت اليهودي"، وبلغ ذروته في عهد حكومات بنيامين نتنياهو، التي استعادت رموزًا دينيةً/أسطوريةً من التاريخ اليهودي لمواجهة التحدّيات السياسية والأمنية.
"الأسد الصاعد" رمز عسكري - ديني ضدّ إيران
في الحرب الأخيرة ضدّ إيران، ومع تصاعد التوتّر مع إيران وبرنامجها النووي، استخدم بعض القادة العسكريين والمفكّرين في معاهد الأمن القومي الإسرائيلي، ومراجع دينية قومية، تعبير "الأسد الصاعد" للدلالة على قوةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ جديدةٍ ستنهض لمواجهة "الخطر الفارسي" وبروز الدور الإسرائيلي الموعود في حرب "نهاية الزمان" ضدّ أعداء اليهود وتوظيف نبوءات دانيال وأشعيا التي تتحدّث عن حروب آخر الزمان.
دلالة "الصعود"
وكلمة الصّاعد هنا تشير إلى نهضةٍ عسكريةٍ إسرائيليةٍ متفوقةٍ تقود حربًا استباقيةً ضدّ إيران مع استغلال الدور الديني للمؤسسة السياسية الإسرائيلية باعتبارها "قوة الخلاص"، وإشارة إلى دور "الأسد" في الحسم والردع الشامل.
الأبعاد السياسية لاستخدام الشعار
من الناحية السياسية، يخدم الشعار أهدافًا عدّة، منها التحشيد الداخلي لإسرائيل التي تعيش انقساماتٍ اجتماعيةً حادةً، ما يجعل الرموز الدينية المشتركة وسيلةً لتعبئة الداخل الإسرائيلي حول فكرة الحرب "المُقدّسة"، بعيدًا عن الجدل السياسي. وتشمل أيضًا توجيه رسالةٍ إقليميةٍ باستخدام رمز الأسد - الذي له وقع نفسي خاص في الوجدان الشرق أوسطي - ترسل من خلالها إسرائيل رسالة قوةٍ إلى خصومها، مفادها بأن "إسرائيل قادمة بعزمٍ لا يلين".
محاولة إعادة صياغة الوعي الجمعي الإسرائيلي نحو قبول الحرب باعتبارها قدَرًا دينيًّا وليس خيارًا سياسيًا
واستخدام تلك الشعارات الدينية يُعطي شرعنة للتحرّكات العسكرية أمام اليمين الديني في إسرائيل الذي ينظر لأي صراع ضدّ إيران باعتباره تنفيذًا لوعدٍ إلهي، وتبنّي شعار ديني مثل "الأسد الصاعد" يمنح القيادة السياسية والعسكرية مُبرّرًا دينيًّا لأي عملية عسكرية كبرى.
الأبعاد الدينية في الحرب النفسية
إسرائيل بارعة في استخدام الرموز الدينية جزءًا من الحرب النفسية ضدّ خصومها، منها على سبيل المثال عملية "عمود السحاب" 2012 على قطاع غزّة استنادًا إلى إشارةٍ توراتيةٍ تقول: "وَكَانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَارًا فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَلَيْلًا فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ" (الخروج 21:13)، وعملية "حارس الأسوار" 2021 على قطاع غزّة "عَلَى أَسْوَارِكِ يَا أُورُشَلِيمُ أَقَمْتُ حُرَّاسًا لا يَسْكُتُونَ كُلَّ النَّهَارِ وَكُلَّ اللَّيْلِ" (إشعيا 62:6). واستخدمت شعار "السيوف الحديدية" في إبادة أهل غزّة عام 2023 "بِسَيْفٍ مِنْ حَدِيدٍ أُعَاقِبُهُمْ" (إشعيا 27:1).
واليوم، مع تصاعد المواجهة مع إيران و"حزب الله"، يمكن أن يكون "الأسد الصاعد" جزءًا من استراتيجية حربٍ نفسيةٍ تستند إلى بثّ الرّعب في خصومٍ يرون رمزية الأسد "دليلًا على نهوض قوةٍ إسرائيليةٍ لا تُهزم"، بجانب التأثير في الرأي العام الإيراني والإقليمي عبر إعلامٍ ناطقٍ بالعربية والفارسية.
البُعد الأسطوري في صراع إسرائيل مع إيران
إيران في الخطاب الديني اليهودي المُعاصِر كثيرًا ما تُستحضر تحت مسمّيات "فرس" أو "عاد"، أي القوة المُعادية لبني إسرائيل منذ السبي البابلي حتى العصر الحديث.
وفي نبوءات نهاية الزمان اليهودية، هناك ذكرٌ لحرب "يأجوج ومأجوج" التي يُعتقد أنّ إيران ستكون طرفًا فيها، واستخدام "الأسد الصاعد" يُشير ضمنيًّا إلى دور إسرائيلي موعود في تلك الحرب.
الحرب المقبلة قد لا تُخاض فقط بالصواريخ والطائرات بل بمفاهيم دينية ذات وقع تعبويّ خطير
لوحظ مؤخرًا أنّ هناك مسلسلات عسكرية إسرائيلية، مثل "فوضى" (Fauda) بدأت توظّف رموزًا دينية - ميثولوجية أسطورية، وكُتُبَ أطفالٍ تتناول شخصية "الأسد المحارب"، بدأت تنتشر في أوساط المستوطنين ورسومات "غرافيتي" لأسدٍ يحمل نجمة داود ظهرت في القدس والخليل ومستعمرات الضفّة، وهذا يؤشّر إلى محاولة إعادة صياغة الوعي الجمعي الإسرائيلي نحو قَبول الحرب باعتبارها قدَرًا دينيًّا وليس خيارًا سياسيًا.
ماذا يعني هذا للعالم العربي؟
إنّ تبنّي إسرائيل لرمزية "الأسد الصاعد" في حربها ضدّ إيران ليس مجرّد خطوة خطابية، بل يُنذر بتصاعد النزعة الدينية القومية داخل إسرائيل، ويشير إلى حروبٍ قادمةٍ ذات طابع عَقَدِيّ أكثر منها سياسي، ممّا يستدعي من النّخب العربية قراءة المشهد وفق رموزه الدينية والسياسية؛ إذ إنّ الحرب المقبلة قد لا تُخاض فقط بالصواريخ والطائرات، بل بمفاهيم دينيةٍ ذات وقع تعبويّ خطير.
وإذا كانت السياسة دائمًا لغة مصالح، فإنّ الرموز - بخاصة في المجتمعات الدينية القومية - تصبح أدواتٍ أخطر من السلاح، لأنها تحوّل الحرب إلى معركةٍ مُقدّسةٍ لا تقبل التسويات.
(خاص "عروبة 22")