الأكيد أنّ ما بعد روبوت الدردشة المعروف بـ"تشات جي بي تي" (ChatGPT) لن يكون كما قبله، على مستوى الذكاء الاصطناعي... فمنذ طرحه للاستخدام المجاني في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي نال الاهتمام العالمي وبدأت الكثير من التساؤلات حيال ما سيكون عليه العالم بعد هذا المنعطف التكنولوجي وأي مستقبل سنكون فيه.
ما يميّز نموذج "تشات جي بي تي" هو إنتاج محتوى من الألف إلى الياء من دون اقتباس مباشر من مصادر أخرى، بعدما تمّت تغذيته بكميات هائلة من المعلومات مكّنته من تأليف نصوص أشبه بالنصوص البشرية. حتى أنه اعتُبر من أقوى نماذج معالجة اللغة على الإطلاق مع قصوره في صناعة المحتوى باللغة العربية.
إنطلاقاً من هذا الواقع المستجد، لم يعد بمقدور غالبية الناس، لا سيّما فئة الشباب، البقاء بمنأى عن تداعيات الصعود المتسارع للذكاء الاصطناعي. أسئلة بالجملة طُرحت ولا تزال تُطرح يوميًا، ونقاشات كثيرة تدور حول هذا الذكاء، تعريفه وكيفية عمله ومدى تأثيراته وما يخبئه للمستقبل، من هنا أتى السؤال المهم على مستوى الوطن العربي: كيف ينظر الشباب العربي إلى هذا التطور اليوم؟
"حدود جديدة" للإنسانية... وضرورة حتمية للبشرية
بدايةً لا يوجد تعريف موحّد للذكاء الاصطناعي (AI)، لكن عادة ما يُعرّف عنه بوصفه تقنية تحاكي الذكاء البشري في أداء المهام، واللافت، أنه يستطيع تحسين قدراته في كل مرة تُسند إليه معلومات جديدة، ما يجعله في تطوّر دائم... وغير محدود.
وقالت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي عنه: "إنه الحدود الجديدة للإنسانية. بمجرد عبورها سيؤدي هذا الذكاء إلى شكل جديد من الحضارة الإنسانية (..) لذا يجب علينا أن نتأكد من تطويره من خلال نهج إنساني قائم على القيم وحقوق الإنسان".
بعيدًا عن كمّ التعريفات الذي يطول ولا ينتهي، يدخل الذكاء الاصطناعي من منطلق تكنولوجي، في كافة البرامج والآلات، ليشكل تعلم كيفية استخدامه ضرورة حتمية للبشرية، تمامًا كما تعلم الإنسان في حقبات سابقة كيفية إستخدام الكمبيوتر والإنترنت.
"هذا تحول ثوري، ربما لا يقل تأثيرًا عن إختراع المحرّك البخاري. يمكن اعتباره ثورة جديدة في مجال التواصل وسوق العمل" يقول محمد مؤمن وهو شاب عراقي مهتم بشؤون ريادة الأعمال لـ"عروبة22"، ويضيف: "أعتقد أنّ هذا التحوّل سيشمل مختلف قطاعات الحياة مثل نظم التعليم وأسواق العمل، وبالتالي أثره سيكون كبيرًا ومباشرًا على كثير من الناس سواءً في مجال عملهم أو حياتهم أو الفرص التعليمية المتاحة لهم".
فرصة للتطوير وتوفير الوقت... وفرصة للاحتيال أيضًا
يروي مؤمن حديثًا جرى بينه وبين أحد المسؤولين في إحدى الجامعات العراقية، إذ قال له الأخير، إن الجامعة لم تعد تقيّم كثيرًا من المشتركين بناءً على المقالات الأكاديمية التي يرسلونها لأنها قد تكون مصنوعة من الذكاء الاصطناعي، بعد ظهور "تشات جي بي تي"، وباتوا يعتمدون اليوم أكثر على الترشيحات الموثوق بها للأشخاص.
ويعبّر مؤمن عن هواجس كثيرة، لدى الشباب العراقي، بشكل عام، إذ "يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي تأثيرات قد تمنع إتاحة الفرص لبعضهم، كونه أسلوبًا يعتمد على مصدر جاهز لصناعة المحتوى أو الكتابة أو الإنتاج، وبالتالي سيشكّل فرصة للتطوير وتوفير الوقت من جهة، وفرصة للإحتيال أيضًا من جهة أخرى".
لم نرَ أي استجابة لهذا التطور الدراماتيكي من قبل المؤسسات الحكومية
ويلفت الانتباه إلى "تباطؤ الحكومة العراقية في التعاطي مع الذكاء الاصطناعي كما مختلف التطورات التكنولوجية"، ويُرجع ذلك إلى عوامل كثيرة، أهمها: "تأخر التشريعات القانونية، بطء العقلية الحكومية وكهولة إدارة الملفات الخاصة بالمتغيرات"، ويقول: "منذ ابتكار "تشات جي بي تي"، والذي يعد أقوى طفرة في مجال الذكاء الاصطناعي إلى اليوم، لم نرَ أي استجابة لهذا التطور الدراماتيكي من قبل المؤسسات الحكومية".
ويضيف: "للأسف نحن متأخرون جدًا في هذا المجال، حتى أننا متأخرون على مستوى البنى التحتية الرقمية، مثل شبكات الإنترنت وجودة الاتصالات وحتى آليات الدفع الإلكتروني".
ويختم: "هناك الكثير من الشبان، العاملين في القطاع الخاص، استثمروا في الأدوات التي وصلتنا على صعيد الذكاء الاصطناعي سواء في مجال التسويق أو إنتاج المحتوى، وتمكّنوا من المواكبة بشكل سريع وتطوير المسار المهني الخاص بهم، ولكن هذه الاستثمارات لا تعدو كونها محاولات فردية وليست ظاهرة في سوق العمل العراقي، لذا أعتقد أننا نحتاج إلى وقت أطول حتى نستوعب حجم المتغيّرات والموارد التي باتت متاحة".
لماذا علينا أن نخاف "الذكاء"... وهل يمكن أن تحدّ خدماته من "إبداعية" الإنسان؟
من جهتها تقول الشابة التونسية إشراق كرونة، وهي طالبة دكتوراه في إحدى جامعات فرنسا، لـ"عروبة22": "علينا في البداية أن نتفق على أنّ قضية الذكاء الاصطناعي هي قضية جديدة على الساحة الثقافيّة والفكرية في تونس كما في بلدان أخرى عربية. بهذا المعنى فإنّها موجودة بشكلٍ محدودٍ جدًّا وسط الشباب الذي يستعمل تقنياتها ويتفاعل معها بشكلٍ طبيعي لكن في الظلّ دائمًا. لا توجد قوانين واضحة تجرّم استعمالها أو تمنعه لكنّ الإطار الأكاديمي على سبيل المثال لا يقبل استعمال هذه التقنيات في البحوث الأكاديمية".
وبالنسبة إلى التساؤلات التي يثيرها الشباب في هذا السياق، تطرح كرونة علامات الاستفهام التالية: "إلى أيّ مدى يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي بديلًا من قدرات الإنسان؟ أليس الذكاء الاصطناعي صناعة الإنسان في حدّ ذاته؟ إذا كان يمكن وضع الذكاء الإصطناعي في خدمة الإنسان لتسهيل حياته وتطويرها بنسق أسرع، فلماذا علينا أن نخاف "الذكاء" طالما تم التعامل معه بوصفه تقنية جديدة يعتمدها الإنسان كما اعتمد سواها من التقنيات التي جاء بها قبلًا وطوّرها مع مرور الوقت".
الذكاء الإصطناعي "سلاح ذو حدّين" كأيّ تقنية حديثة
بيد أنّه في الوقت نفسه، من وجهة نظر أخرى تتعلّق بمقولة الإبداع، تسأل كرونة: "هل يمكن أن تحدّ خدمات الذكاء الاصطناعي من "إبداعية" الإنسان؟ أي أنّ قدرته على تمثّل مناهل الإبداع ستتضاءل مع الوقت وستزيد كلّما عوّل أكثر على تقنيات الذكاء الإصطناعي".
وتستطرد بالقول: "الذكاء الإصطناعي، سلاح ذو حدّين كأيّ تقنية حديثة، على الإنسان أن يعي نقاط القوة فيها ونقاط التأثير التي يمكن أن تنعكس على سيرورته وعلى قدراته الحقيقية لا الإصطناعية".
(خاص "عروبة22" - إعداد حنان حمدان)