هما الذريعتان اللتان ثبت بطلانهما مع دحض المخابرات المركزية الأميركية لأدلة جنرال الخارجية الأميركية السابق كولن باول المزوّرة التي رفعها في مجلس الأمن الذي لم يأخذ بالذرائع البوشّية لغزو العراق، ما دفع جورج دبليو بوش إلى شنّ عدوانٍ بالتحالف مع بريطانيا لاحتلال العراق، ومن خارج الأمم المتحدة والشرعيّة الدوليّة التي استبدلها بوش بشرعيّات إقليمية وعراقية محلّية حتى تمكنت الدبّابات الأميركية من دخول بغداد على جسر ثلاثي المسارات... الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، والأحزاب الكردية، والإخوان المسلمين.
على مدى عقدَيْن من التخادم مع أميركا تغوّلت إيران في البلاد العربية وسطت على خرائط جهاز التصنيع التخصيبي العراقي
ومن رحم هذا الغزو وشرعياته المحلية والإقليمية، ثبت "التخادم" الأميركي - الإيراني الذي انطلقت حلقاته الأولى في غزو أفغانستان، وبات كفكَّي كمّاشةٍ تُطبقُ على عنق العراق الذي خضع للاحتلال المزدوج... العسكري الأميركي، والمعنوي الإيراني، الذي سرعان ما انعكس في هيكليّة مجلس الحكم الانتقالي، ثم الدستور الذي عُرف بـ"دستور بريمر" الذي عبث بأحجام المكوّنات العراقية، محوّلًا الأقلية إلى أكثريّة، والأكثرية إلى أقليّة. ألم يكن الغرب بساسته وإعلامه ومعهم "ردّيدة" عرب يقولون "إنّ صدّام حسين يضطهد الأقليّتَيْن الشيعية والكردية"؟!.
وعلى مدى عقدَيْن من التخادم، تغوّلت إيران وتوغّلت في البلاد العربية، وتمكّن جنرالها قاسم سليماني من إنشاء 6 جيوش عربية للدفاع عن طهران. وباتت اللاعب الإقليمي ما قبل الأول في بيئةٍ سياسيةٍ أمنيةٍ مختلّةٍ لصالحها بعيدًا عن أي مشروع عربي يحقّق التوازن معها. ما جعل إيران تذهب بعيدًا في إبراز شوكتها ضدّ البلاد العربية شعوبًا وأنظمة، توازيًا مع مسارها النووي والتسليحي والذي أخذ دفعًا قويًا بعد سقوط بغداد وتمكُّن إيران من السطو على الخبرة والمعرفة العراقيّة وخرائط جهاز التصنيع العسكري والتخصيبي، على الرَّغم من تدمير إسرائيل لمفاعل تموز العراقي.
التخادم مُنتَج أميركي ساري المفعول طالما أنّه يخدم المصالح الأميركية
وتحت جناح التخادم، اقتربت إيران كثيرًا من الوصول إلى العتبة النووية التي واصلت السعي إليها، على الرَّغم من قطف دونالد ترامب لرأس قاسم سليماني، وبات جليًا أنّ دهاقنة طهران فوجئوا بإنهاء واشنطن لنظرية التخادم التي حكمت المنطقة، ولم يدخل في خلدهم أنّ الولايات المتحدة تعتمد في تخادمها على أطراف عديدة.
فالتخادم هو مُنتَج أميركي ساري المفعول طالما أنّه يخدم المصالح الأميركية، وله طريق بمسارَيْن منفصلَيْن غير متصلَيْن ذهابًا وإيابًا. ففي رحلة الذهاب، كان التخادم الأميركي مع إيران، أمّا في رحلة الإياب التي فرضها أميركيًا "طوفان الأقصى"، فقد اتخذ التخادم مسارًا معاكسًا، بل وانقلابيًا على مسار الذهاب.
بين رحلة الذهاب، وبداية رحلة الإياب، عقدان من الزمن جرت خلالهما مياه كثيرة، أنتجت واقعًا جيوستراتيجيًا جديدًا بفعل ما اصطُلح على تسميته بـ"ثورات الربيع العربي" التي انطلقت من تونس، مرورًا بمصر، ثم ليبيا القذّافية، وسوريا الأسدية وليس انتهاءً باليمن الحضرميّة. وحلّت الفوضى الأمنية المسلّحة التي حملت حركات الإسلام السياسي والجهادي إلى مقاعد السلطة في هذه البلدان، وكان دور إيران وموقفها في هذه الثورات مُلتبسًا واستنسابيًا، وفيما أعلنت طهران دعمها للثورات في تونس ومصر وليبيا، أخذت موقفًا معاديًا من شقيقتهم السوريّة، وهو الموقف الذي استثمر فيه وعليه المستثمرون، وكانت النتيجة تهشيم "محور المقاومة" على يد إسرائيل العدوّة والولايات المتحدة، وكانت الضربة الكبرى لإيران في إخراجها الاستراتيجي من سوريا.
علاقة العراق الكاذبة بتنظيم "القاعدة" كذريعة لغزوه واحتلاله لم تمنع أميركا من إبرام عقد تخادم مع "القاعدة" في سوريا
هذه السرديّة الكاشفة والسريعة جدّ ضرورية لتبيان مسار الانطلاق التصاعدي لمسار تخادم الإياب. فالحقيقة المُرّة أنّ الولايات المتحدة وحدها من تمتلك استراتيجيةً مُتعدّدة المسارات والاحتمالات. فعلاقة العراق الكاذبة بتنظيم "القاعدة" بوصفها إحدى ذريعتَي غزوه واحتلاله، لم تمنع الولايات المتحدة من إبرام عقد تخادمٍ مع "القاعدة" نفسها في سوريا، بعد عمليات مكياج وتأهيل لزعيم "جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني، لزوم التسويق والعلاقات العامة، ليصبح أحمد الشّرع رئيسًا لسوريا ما بعد إسقاط بشّار الأسد.
التخادم هو الشيفرة غير السريّة للإرهاب الذي أكّدنا غير مرّة أنّه "سيف أميركا تنتقم به، ثمّ تنتقم منه". وإذا كان غزو العراق قد حمل الميليشيات الشيعيّة الموالية لإيران إلى سدّة السلطة والسلطات الموازية في العراق وغيره، فإنّ شطب فرع "القاعدة" السوري عن لوائح الإرهاب الأميركية، تزامن مع صعود بعض حركات الإسلام الجهادي وليس السياسي فقط، إلى كراسي السلطة في بلاد الشام.
وإذا كانت تداعيات سقوط بغداد قد استغرقت عقدَيْن، فإنّ مفاعيل صعود الإسلام الجهادي السنّي أخذت بالظهور في أشهرها الأولى، وهي المفاعيل التي أكثر من يجيد استدعاءها وتظهيرها المبعوث الأميركي توماس باراك وتصريحاته المنزوعة السياق عمّا فعلته إمبرياليّة "سايكس – بيكو" في دول وشعوب المنطقة. عبارة باراك هذه هي أكثر من نعي لـ"سايكس – بيكو" وخرائطه الجغرافية وتضاريسه "الدينوغرافية" وموارده الاقتصادية، إنّها تخصيب استراتيجيّ لعبارةٍ قاتلةٍ أخرى أطلقها دونالد رامسفيلد وزير دفاع الغزو الأميركي للعراق عن "أوروبا العجوز".
الانتقال من "سايكس - بيكو" إلى "توماس باراكو" سيفجّر الكثير من التناقضات العرقية والإثنية والقومية والطائفية
وإذا كانت رحلة ذهاب التخادم قد واكبتها أنهار من الدماء، وتوازيًا مع العدوان الإسرائيلي المستمرّ على فلسطين وسوريا ولبنان واليمن... فإنّ برك الدمّ في سوريا والمرشّحة للتمدّد أقلّه إلى جوارَيْها اللبناني والعراقي، ستواكب رحلة إياب التخادم بين جيوشٍ عقائديةٍ تكنّ العداء الوجودي لبعضها البعض، وتحكم علاقاتهم البينية عداوات وثارات قديمة وجديدة وبأردية إيديودينية.
أغلب الظنّ أنّ الانتقال من "سايكس - بيكو" إلى "توماس باراكو" سيفجّر الكثير من التناقضات العرقية والإثنية والقومية والطائفية، لا سيّما أنّ غرف عمليات "سايكس – بيكو" التي كان يقودها جنرالات محترفون، مختلفة جذريًّا عن غرف عمليات اليوم، المُدجّجة بالمنتجعات و"مشاريع الريفييرا" والذّكاء الاصطناعي وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والطوبوغرافيا والدينوغرافيا.
ولله الأمر من قبل ومن بعد...
(خاص "عروبة 22")