حضرتُ بعضًا من هذه النقاشات والاجتماعات التي انتهت إلى الإعلان عن مبادئ مراكش الأربعة، الرامية إلى إعادة تحفيز التنمية الدامجة والمستدامة وتعزيز الصمود وتطوير القدرة على مواجهة الازمات العالمية وتخفيفها ودعم الإصلاحات البنيوية، وهي في اعتقادي مبادئ لم تخرج عن الإطار العام لتوجّهات البنك وصندوق النقد الدوليين المتعارف عليها، وانضبطت للسياق السياسي والاقتصادي الدولي الراهن، غير أنها ولّدت لديّ عددًا من الأسئلة المتعلّقة بمستقبل العمل الاقتصادي العربي المشترك، والبدائل المتاحة لمواجهة التحولات الكبرى؛ وهي في معظمها تحوّلات لا تقبل التعاطي بصيغة المفرد.
هذه التحولات المرتقبة قد تدفع مرة أخرى عددًا من الدول العربية إلى طرق باب هاتين المؤسستين الماليتين الدوليتين، تارة عبر بوابة التوصيات والتوجيه وتارة أخرى عبر بوابة الاستدانة المقرونة بشروط مشددة، تشمل مراجعة السياسات الاقتصادية والتشريع وإعادة تعريف أدوار الدولة والسياسة النقدية وغيرها، قد يكون لها أثر إيجابي على تعزيز صمود الحكومات وتقليص عجز الموازنة خلال فترات الأزمة، كما قد تكون لها إسقاطات سلبية على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي وسيادة القرار.
توصيات المؤسسات المالية الدولية، هدية أم فخ؟
وفي هذا الصدد نسوق مثال المملكة المغربية، التي تعرّضت خلال سنوات الثمانينيات إلى أحد أسوأ الأزمات (عُرفت فيما بعد بالسكتة القلبية) التي عصفت باقتصادها عقب انهيار أسعار الفوسفات، وتعاقب سنوات الجفاف واندلاع حرب الصحراء وارتفاع أسعار المحروقات على المستوى العالمي، الأمر الذي أفرغ خزائن البنك المركزي من احتياطات العملة الصعبة ودفع بالمغرب آنذاك مجبرًا إلى طرق أبواب المؤسسات المالية الدولية رغبةً في الولوج إلى التمويل، الذي كان مشروطًا بمراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية وتقليص حضور الفاعل الحكومي في الاقتصاد ورفع الدعم عن كل المواد المشمولة به من قبل.
الدول العربية وحيدة في مواجهة التحديات، رغم توفر إطار مؤسساتي يدعم التكامل الاقتصادي والمالي العربي
هذه الإصلاحات التي عُرفت باسم التقويم الهيكلي كانت سببًا في اندلاع عدد من الاضطرابات الاجتماعية العنيفة طيلة عقد الثمانينيات، وهو ما أجبر الحكومة على تعليق عدد منها لمدة قصيرة قبل أن تستأنف تنزيلها بشكل تدريجي طيلة العقود الماضية، وهو ما أحدث تغيّرًا كبيرًا في طرائق التدبير الحكومي، عبر تبني الخصصة والتحرير اللذين قلّصا حضور الفاعل الحكومي في المشهد الاقتصادي دون أن يفضي ذلك إلى تحقيق قفزة نوعية على المستوى الاقتصادي، في مقابل دين ثقيل وفاتورة اجتماعية باهظة.
ورغبة منها في تخفيف الآثار الجانبية لوصفات المؤسسات المالية الدولية على الفئات الهشة والفقيرة، وتجنّب تكرار سيناريوهات ثمانينيات القرن الماضي، اختار المغرب وضع آليات جديدة لتوفير الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية ودعم الفئات الفقيرة والهشة، عبر وضع منظومة للدّعم المباشر ستعوّض ابتداءً من السنة المقبلة منظومة الدعم العام، وهو الأمر الذي سينجم عنه تحرير أسعار الغاز والكهرباء والسكر والدقيق الأبيض ويخفف أعباء الحكومة المالية ويوجه الدعم إلى أكثر الفئات حاجة إليه، في مقابل تقليص القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة وجعلها أكثر هشاشة.
سنوات من التعاون مع البنك وصندوق النقد الدوليين لم يكن لديها أثر على التنمية وتطوّر الاقتصاد في المنطقة العربية
مشروع الموازنة لسنة 2024 تضمّن هذه التوجهات، كما تضمّن قبل ذلك ميثاق الاستثمار الجديد توجهات المملكة الاستثمارية الرامية إلى تقليص حضور الفاعل الحكومي، وهي عمومًا توجهات تحظى بدعم وإشادة المؤسسات المالية الدولية، وتثير في المقابل مخاوف عديدة حول السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي وقدرة الحكومة على تحمّل تبعات وكلفة الإصلاحات دون اللجوء مرة أخرى إلى آلية الاستدانة.
غياب البدائل
في ظل غياب البدائل، بما فيها البدائل العربية، سواء على المستوى المؤسساتي أو الحكومي، كما كان الشأن عليه خلال حقبة أحداث "الربيع العربي" حيث استفادت المملكة من دعم مالي خليجي، شأنها في ذلك شأن عدد من الدول العربية مكّنها نسبيًا من تجاوز آثار الأزمة الاقتصادية، تجد اليوم المملكة المغربية وغيرها من الدول العربية نفسها وحيدة في مواجهة التحديات الاقتصادية والتحوّلات السياسية والتكنولوجية، على الرغم من توفر قاعدة تشريعية وإطار مؤسساتي عربي يدعم التكامل الاقتصادي والمالي العربي، الأمر الذي قد يفرض عليها مرة أخرى الانصياع لتوجيهات المؤسسات المالية الدولية وتفويتًا كبيرًا من قراراتها السيادية الاقتصادية لصالح هذه المؤسسات وتكريس التدخل المزمن في شؤونها الداخلية.
ينبغي أن تكون التصوّرات التنموية وطرائق الاستجابة لها نابعة من مؤسسات عربية خالصة تراعي منطق التكامل والتعاون
إنّ سنوات من التعاون العربي مع البنك وصندوق النقد الدوليين لم يكن لديها أثر حقيقي على التنمية وتطوّر أداء الاقتصاد في المنطقة العربية، فباستثناء المملكة المغربية التي استطاعت تحقيق استقرار اقتصادي وموازناتي محدود، من خلال تنفيذ جزء من توصيات هذه المؤسسات وتعليق الجزء الآخر كمسألة التعويم والرفع الكلي للدعم، نجد أن بلدانًا كمصر وتونس لا زالتا تتخبطان في أزمات اقتصادية ومالية خانقة، وهو ما يُفيد أنّ بعضًا من هذه التوصيات يتعارض مع السياق الزمني والاجتماعي الراهن للدول العربية ولا يراعي خصوصياتها الاقتصادية ولا يستجيب لحاجياتها التنموية، التي ينبغي أن تكون تصوّراتها وطرائق الاستجابة لها نابعة من مؤسسات عربية خالصة تراعي منطق التكامل والتعاون والتوافق، مما يستدعي الترفّع عن الخلافات السياسية والتفكير بشكل جماعي في الطرائق المثلى لبث الحياة في مختلف المعاهدات الاقتصادية العربية وتحيين الإطار المؤسساتي وتوفير بدائل حقيقية لتمويل مشاريع التنمية بالمنطقة ومواكبة التحوّلات.
(خاص "عروبة 22")