ودون الرجوع إلى الخلفيات التاريخية البعيدة، نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ الأيديولوجيا الصهيونية قامت منذ نشأتها على فكرتين مترابطتين هما: تهجير الشعوب اليهودية من مختلف بلدان العالم إلى فلسطين، وتفريغ أرض فلسطين من سكانها لتوسيع وتمديد "الدولة اليهودية".
الحديث عن دولة فلسطينية مستقلّة إلى جانب إسرائيل لم يكن يومًا مطروحًا بالنسبة للحكومات الإسرائيلية المتتالية
وفق الدراسات الموثّقة للمؤرّخين الإسرائيليين الجدد مثل سمحا فليبان (في كتاب نشأة اسرائيل: أساطير وحقائق) وبني موريس (في كتاب نشأة مشكل اللاجئين الفلسطينيين) وشلومو ساند (في كتاب كيف اخترع الشعب اليهودي؟) واكبت ما سمّي بإعلان الدولة حركية تطهير عرقي واسعة وعنيفة تفنّد الأطروحة الإسرائيلية التقليدية حول الهجرة الطوعية للاجئين الفلسطينيين.
وقد تواصل المسار بصفة دائمة ومتزايدة بعد احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، إلى حد أنّ الحديث عن دولة فلسطينية مستقلّة إلى جانب إسرائيل لم يكن يومًا مطروحًا بالنسبة للحكومات الإسرائيلية المتتالية.
تبدو هذه الحقيقة بارزة في مستويات ثلاثة محورية:
أولًا: الانتقال من الصهيونية العلمانية التقليدية التي كانت توظّف المقولات الدينية في بناء قومية إسرائيلية على غرار القوميات الأوروبية إلى الصهيونية الدينية الحاكمة اليوم في تل أبيب. ومن الخطوط الحمراء لهذه النزعات الدينية المتشددة رفض التنازل عن أي شبر من الأرض المحتلة بل السعي لتوسيع نطاق السيادة الإسرائيلية على ما تعتبره الأرض التوراتية "الموعودة". ومن هنا ندرك صدور القانون الأساسي حول الطابع اليهودي للدولة القومية الإسرائيلية سنة ٢٠١٨، مكرّسًا التمييز الجذري ضد خمس سكان الدولة ومتبنيًا المفهوم القومي العنصري لليهودية الذي يرجع للأفكار النازية.
ثانيًا: السعي لتدعيم حركة الاستيطان الاستعماري في المناطق الفلسطينية في القدس والضفة، بما يترتّب عليه من تقليص الجغرافية الفلسطينية وتقطيع أوصالها، وبالتالي الحيلولة دون أي إمكانية موضوعية لقيام دولة فلسطينية مستقلّة في المناطق المحتلّة سنة ١٩٦٧. إنّ النتيجة الواضحة من هذا المسار هي إقامة نظام من المعازل والملاجئ على غرار نظام الفصل العنصري الذي كان سائدًا في جنوب أفريقيا قبل إزالة قوانين الأبارتيد.
ثالثًا: تهجير سكان قطاع غزة وضم أراضي القطاع من خلال عمليات الحصار والإغلاق والتجويع والضربات العسكرية المتتالية، لإخلاء المناطق الفلسطينية من إحدى أكثر الأقاليم المحتلّة كثافةً سكانية، بما يكرّس الهيمنة الإسرائيلية الفعلية على أغلب المساحات الفلسطينية المحتلة.
"خطة الحسم" التي وضعها "سموتريتش" سنة ٢٠١٧ أصبحت استراتيجية متّبعة عمليًا للتحالف الحاكم في تل أبيب
ليست هذه الخطة بمرتكزاتها الثلاث سرّية أو غير معروفة، بل هي في جوهر برنامج الحكومة اليمينية الحالية التي تتشكّل من الليكود وأحزاب الصهيونية الدينية والتيارات العنصرية الفاشية. نشير هنا إلى "خطة الحسم" التي وضعها سنة ٢٠١٧ وزير المالية الإسرائيلي الحالي "بتسلئيل سموتريتش" وتهدف إلى إقامة دولة إسرائيلية كبرى بين نهر الأردن والبحر المتوسط من خلال القضاء الكامل على الوطنية الفلسطينية وتهجير وطرد أغلب السكان الفلسطينيين وضمّ جل الأراضي التي يعيشون عليها. ومع أنّ الكثير من الإسرائيليين اعتبروا الخطة غير واقعية وتهدّد في العمق يهودية الدولة وتتعارض مع الرؤية الصهيونية التقليدية، إلا أنّ الواقع القائم على الأرض يثبت أنها أصبحت استراتيجية متّبعة عمليًا وهي الأفق الراسخ للتحالف الحاكم حاليًا في تل أبيب.
ومن هنا فإنّ الخطوة الأولى المطلوبة من أجل إفشال هذه الخطة هي الوقوف ضد مشروع التهجير القسري من غزّة المطروح هذه الأيام مع استفحال العدوان الإسرائيلي على القطاع، وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية لتقديم الخيار الديمقراطي الناجع الكفيل بإفشال ما سماه المفكّر الفلسطيني المرحوم أحمد صدقي الدجاني "الحل العنصري في فلسطين".
(خاص "عروبة 22")