حملة المقاطعة هذه، حسب مراقبين وأكاديميين، لم تكن الأولى من نوعها في التاريخ العربي الحديث، فقد سبقتها في السنوات الماضية دعوات إقليمية لمقاطعة منتجات الشركات الإسرائيلية أو الداعمة لإسرائيل كالعلامة التجارية Ariel وCoca، لكنها لم تكن ذات تأثير يُذكر على مستوى الحضور الميداني والرأي العام الشبكي، ومع ذلك فمثل هذه الخطوات القليلة والمتفرّقة كان لها دور أكبر في إذكاء الوعي الجمعي حول فكرة المقاطعة بين الكتلة الشبابية العربية التي تُعد الأكثر حضورًا على الشبكات، كما أنّ نجاحها في أماكن متفرقة من العالم العربي كما حدث في المغرب، كانت سبيلًا في انبثاق أفعال جمعية واحتجاجية من هذا القبيل.
في جانب آخر يُذكّرنا الأنثروبولوجي، عبد الله حمودي، بأنه من المفيد استحضار مقاطعات اقتصادية كنوع من المقاومة: "أتذكّر أنواعًا من المقاطعة مورست في أوائل الخمسينات من القرن الماضي كوسيلة لمقاومة الاستعمار.. وضرب مصالح المستعمر". طبعًا لا سبيل للخلط بين الحركتين والمرحلتين، لكن الأهم هو أنّ حركة الإمساك عن الشراء والمقاطعة راهنًا تأتي في سياق حدث نوعي وفريد في العالم العربي قاده الفلسطينيون ودمّروا من خلاله سردية "الجيش الذي لا يُقهر".
أظهرت المقاطعة تلاحمًا غير مسبوق بين الشبكيين العرب من المحيط إلى الخليج
انطلقت الدعوة إلى المقاطعة من فضاء الشبكات، صامتة وهادئة ومحدودة الانتشار، يروّجها عدد محدود من الصفحات والشبكيين، لقد كانت مقاطعة بدون هوية، بدون إطار داعم يحدّد معالمها ويقوّي أثرها، غير أنّ "مجرد تردّد هذه الفضاءات بين العزلة والاجتماع قد يخلق فرصة لأن تنقلب أحيانًا إلى فعل عام مشترك، والواقع أنّ لحظة انقلابها هذه قد تكون صعبة التحديد" (تايلر تشارلز)، من حيث حاجتها إلى "حدث عظيم"، بمفهوم "ليوتار"، أو غضب جماعي أو حادث قتل مادي أو رمزي يمثّل شرارة أو شعلة، لتتحوّل إلى حضور قوي وفعّال في فضاء الشبكات والحياة اليومية للمواطنين، والواقع أنّ جميع هذه الشروط قد توفّرت في الأيام التالية على حرب غزة، ولم يتأخر الحدث العظيم طويلًا، فقد جاء على يد مسؤولي الكيان الإسرائيلي، الذين وصفوا مبدعي "طوفان الأقصى" بالحيوانات البشرية، ودعوا إلى إبادة شعب غزّة بالكامل أو تشتيته في مناطق لجوء عربية بديلة. الأمر الذي ولّد انفعالًا جمعيًا وغضبًا جماهيريًا سائلًا تجاوز الجغرافيا العربية مغطيًا مختلف بقاع العالم، وقد سبق لـ"دوركهايم" أن أعطى لأوقات الانفعال الجمعي هذه مكانة هامة باعتبارها لحظات مؤسسة للمجتمع وللمقدس.
لقد أظهرت المقاطعة تلاحمًا غير مسبوق بين الشبكيين العرب من المحيط إلى الخليج، أسهم بشكل مباشر في تدفّقها عبر الشبكات والعقد الرقمية، مشكّلةً حركة اجتماعية جديدة من حيث طابع السيولة الذي يميّزها، وسرعة انتشارها وتعدّد الفئات المشاركة فيها (مواطنون عاديون، نجوم ومشاهير ورجال دين)، وتدريجيًا بدأ الشبكيون يبدعون في بناء سردية المقاطعة وتفاصيلها حيث أطلقوا هاشتاغ #"هل_قتلتَ_طفلًا_فلسطينيًا_اليوم؟"، كما أطلق المتحكّمون بثقافة الإنترنت، بحسب لغة "كاستيلز"، من مصر ودول أخرى تطبيق "قضيّتي" يتيح فحص المنتجات إذا ما كانت ضمن اللائحة الداعمة للكيان، بل واقتراح في الوقت ذاته منتجات محلية بديلة، كما أبدعوا في تقاسم صور فراغ المطاعم والمقاهي والمراكز التجارية موضوع المقاطعة، وكذلك نشر إحصاءات وأرقام ونسب الخسائر التي ألحقتها المقاطعة بأسهم الشركات العالمية المقصودة.
وبغض النظر عن مدى صحة ما هو متوفر من معطيات حول نجاح المقاطعة وقوة تأثيرها، بالحجم الذي يدفع تلك الشركات إلى مراجعة مواقفها الداعمة لإسرائيل، حيث كشف الدكتور أحمد غنيم، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة أنّ "مقاطعة المنتجات لن يؤثّر سلبًا أو إيجابًا على تلك الشركات، فلا خسائر مادية على الأمد القصير"، كما قدّم مجموعة من الوكلاء بالمنطقة العربية بيانات تؤكد أنّ هذه الشركات عربية وليست على علاقة بالشركة الأم، من حيث أنّ الشركة العالمية سبق حصولها على أرباح العلامة التجارية من البداية وانتهى الأمر. رغم ذلك نجحت المقاطعة بصفتها "مواطنة عربية متمرّدة" ومقاومة سلمية ومدنية، يقودها شباب شبكيون وحركة قائمة على الحقوق وفك الارتباط بين الاقتصاد والسياسة، مؤكدين انبثاق شرعية الشارع وفضاء الشبكات، الذي أصبحت وتيرته تتسارع بشكل تجاوزت بكثير سرعة الأحزاب والأنظمة العربية، التي لم يعد بمقدورها التقدّم بالوتيرة نفسها.
أشكال الوعي الجمعي التي رافقت هذا الحراك قد تُشكّل لحظات مؤسّسة للعروبة والمقدس المجتمعي العربي
فيما وراء سردية المقاطعة، يعاد طرح السؤال عن قيمة مضافة للاقتصاد العربي تأتي من "سندويتش برجر" أو فنجان قهوة أو مشروب يُصنع بمنتجات محلية وعمالة عربية ثم يغلّف بعلامة تجارية عالمية، في الوقت الذي تتوفر فيه بدائل محلية وإقليمية وجب الإقبال على استهلاكها ودعمها، للرفع من جودتها وجعلها قابلة للتصدير ولو إقليميًا كمرحلة أولى، حيث تشكّل السوق العربية الحالية فرصة سانحة للنهوض بالاقتصادات الإقليمية وزيادة الطلب وفرص الاستثمار.
من جهة أخرى، صحيح أن "حراك مقاطعون" غير كافٍ في الوقت الراهن للتعامل مع كيان لا ينظر إلى العربي إلا نظرة استعلاء وتفاوت وتجريد من الانسانية، لكن أشكال الوعي الجمعي التي رافقته قد تشكّل مستقبلًا لحظات مؤسّسة للعروبة والمقدس المجتمعي العربي.
(خاص "عروبة 22")