فلسطين... القضية والبوصلة

"الإبادة" ويقظة الضمير الإنساني اليهودي!

بَيّنَت تجارب التاريخ أنّ ما من مقاومةٍ ضدّ الآخر، الغازي المحتلّ، يمكن أن تفنيَ شعبًا، بل إنّ العكس هو الذي يحدث عادةً، فالمجازر الشبيهة التي حدثت لشعوبٍ أخرى قبل هذا الذي حدث في غزّة، قد شكّلت نقلةً نوعيةً في صيرورة مقاومة تلك الشعوب للاحتلال. وكلّما تكثّفت أشكال القمع والتنكيل والقتل والتدمير تضاعفت جبهة الإدانة والتضامن مع الضحية.

بعد الإبادة المستمرّة بأشكالها المختلفة ضدّ سكان غزّة أخذت الأسئلة تُطرح، من قبل أصدقاء دولة الاحتلال في العالم وقطاعات واسعة من اليهود في الداخل والخارج، عن الذي ستجنيه تلك الدولة بعد كلّ الذي بذّرته من كراهية وحقد وثأر في أرجاء فلسطين ولبنان، مؤكدين أنّها بممارساتها تلك، لن تكسب على المدى الطويل سوى المزيد من الأعداء الجدد وبروز أجيال جديدة من المقاومين الذين شاهدوا بأمّ أعينهم ما قامت به قوة الاحتلال تجاههم وعائلاتهم وأقاربهم وجيرانهم وأحبّتهم وشعبهم.

ومن بين المفكّرين اليهود الذين أدانوا عملية الإبادة بأشكالها المختلفة نورمان فينكلشتاين (Norman Finkelstein) المؤرخ الأميركي من أصولٍ يهوديةٍ، والذي اعتبر أنّ الخطر الأكبر الذي يواجه إسرائيل هو أنّ الدولة التي تدّعي الأمانة على ذكرى جرائم الإبادة الجماعية التي مورست ضدّ الشعب اليهودي، أصبحت عاجزةً عن احتكار استثنائية المحرقة بصفتها حدثًا أقصى وشرًّا مُطلقًا، واصفًا ما يحدث اليوم بأنه "هولوكوست" فلسطيني كامل، في طور التحوّل إلى شرخ أخلاقيّ عميق في وعي الإنسانية.

تعدّد الحراك اليهودي المُناهض للإبادة التي تعرّض لها سكان غزّة وتعدّدت نشاطات الحركات اليهودية المُناهضة للصهيونية

أمّا آفي شلايم (Avi Shlaim)، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، فاعتبر أنّ "إسرائيل باتت دولةً مارقةً تنتهك القانون الدولي وتمتلك أسلحة الدّمار الشامل وتُمارس الإرهاب وتستخدم العنف ضدّ المدنيين لأهدافٍ سياسية".

من جهته، كتب المؤرخ إيلان بابي (Ilan Pappé): "لسنا بحاجة إلى إدانة المجازر فحسب، بل إلى الطعن بشرعيّة هذه العقيدة، فالصهيونية هي عقيدة تدعم التطهير العرقي والاحتلال والمجازر الجماعية، والصهيونية عقيدة عنصرية تسعى إلى الهيمنة".

في حين صرخ البروفيسور جاك بيرس الطبيب الفرنسي اليهودي قائلًا: "كفى عارًا على ضحيةٍ سابقةٍ أن تكون جلاّدًا وتُعيد إنتاج الظلم التاريخي الذي تعرّضت له، على شعب آخر بريء من دون ذنب. ستدفعون ثمن هذا الهولوكوست يومًا ما. أنا مدينٌ للعرب باعتذار أرجو قبوله. اعتذار عن كل ما تفعله دولة إسرائيل بحقّكم. هؤلاء صهاينة لا يهود".

لقد تُرجمت تلك المواقف على الأرض وتجسّدت في تعدّد الحراك اليهودي في أنحاء العالم المُناهض للعدوان على غزّة والإبادة التي تعرّض لها سكانها، إذ وقّع مؤخرًا آلاف اليهود، من إسرائيليين وحاخامات ومؤرّخين، على وثيقةٍ وصفوا فيها الوضع القائم حاليًا بأنّه بوضوح نظام فصل عنصري. كما تعدّدت نشاطات الحركات اليهودية المُناهضة للصهيونية سواء من منطلقات دينية أو يسارية. من ذلك جماعة "ناتوري كارتا" (Neturei Karta) اليهودية الأرثوذكسية، و"الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام" (Union juive française pour la paix - UJFP) المُناهض للعنصرية والاستعمار والصهيونية. والأمر نفسه مع "الشبكة اليهودية الدولية المعادية للصهيونية" (International Jewish Anti-Zionist Network) و"منظمة كسر الصمت" (Shovrim Shtika) التي أنشأها جنود إسرائيليون سابقون.

الجديد والمؤثّر هو مضمون الشعارات المرفوعة من قبل اليهود ومنها توصيف ما يجري في غزّة بأنّه "هولوكوست"

كما ظهرت منظمات جديدة مُناهضة للصهيونية مثل منظمة "يهود ضد استعلاء البيض" بالإضافة إلى العديد من المواقع الإعلامية التي ساهمت في نشر العديد من التقارير والتحقيقات المُفنّدة والناقضة للبروباغندا الصهيونيّة، في حين استخدم ناشطون آخرون الأفلام الوثائقية التي تُدين عملية الإبادة ضدّ سكان غزّة.

يُشكّل الاحتجاج الذي نظمته منظمة "إن لم يكن الآن" (If Not Now) اليهودية الأميركية المُناهضة للاحتلال أمام فندق ترامب الدولي في مدينة نيويورك، يوم 4 أغسطس/آب الماضي، حدثًا فارقًا باستقطابه تيّارات يهودية، أفرادًا وجمعيات، بل قالت المديرة التنفيذية المؤقتة للمنظمة خلال كلمتها أمام الحشود: "إنّ ما يجري ضدّ سكان غزّة إهانة لا تُطاق، ولا تُوصف، وليست مبهمةً لإنسانيتنا المشتركة ولمَن يمارسونها ويستخدمون رموزنا ولغتنا وتقاليدنا اليهودية للدفاع عنها وتبريرها، ولذلك يُسعدني أن أرى هذا العدد الكبير من اليهود والمنظمات اليهودية يجتمعون اليوم ليعلنوا بصوتٍ واحدٍ أنّنا نعارض هذه الفظائع، ليس على الرَّغم من يهوديّتنا، بل بسببها بالنسبة إلى الكثيرين".

الأمر يتطلّب جهودًا مُتواصلة من الفلسطينيين والعرب لاستثمار هذا الشرخ الذي لحق بصورة دولة الاحتلال وتوسيع دائرته

قد لا يكون هذا التيّار جديدًا، كما قد يكون تأثيره محدودًا، بخاصّة داخل دولة الاحتلال، إلّا أنّ تأثيره يبدو واسعًا بين الشباب الأوروبي والأميركي وخصوصًا في صفوف الجماعات اليهود، لكن الجديد والمؤثّر هو مضمون الشعارات المرفوعة من قبل اليهود خاصّةً، ومنها توصيف ما جرى ويجري في غزّة بأنّه إبادة جماعية وتطهير عرقي و"هولوكوست"، أو بأنّها ممارسات لا تختلف عمّا حدث لليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وهي السرديّة التي استثمرتها ووظّفتها الحركة الصهيونية والدولة إيّاها كوسيلةٍ ومبرّرٍ لابتزاز العالم وجذب تعاطفه.

على الرَّغم من أهمية هذا التصدّع الذي أصاب صورة دولة الاحتلال العنصرية على جميع المستويات، إلّا أنّ الأمر يتطلّب جهودًا مُتواصلةً من قبل الفلسطينيين أولًا والعرب ثانيًا، لاستثمار هذا الشرخ الذي لحق بصورة دولة الاحتلال وتوظيفه وتوسيع دائرته لعزلها أكثر، وهذا هو أدنى ما يمكن القيام به وفاءً لدماء الشهداء، وفي سبيل استرجاع الحقوق الشرعيّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن