قناة "العربية" تُقدّم مجموعةً منوّعةً من البرامج ذات الثقل المعرفي، كمثل برنامج "سجال" لمشاري الذايدي، أو "قابل للجدل" لنايف الأحمري، أو "الذاكرة السياسية" لطاهر بركة. مجموعة من البرامج، وخصوصًا الأخير، تُقدّم للمشاهد ساعاتٍ معرفيةً عميقةً، حول الأوضاع السائدة إبّان حكم العسكر العرب، وهي قد شغلت معظم النصف الثاني من القرن العشرين، والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، وخلقت نظام حكم متوحّش ولعنة تبديد أرواح البشر والموارد.
بعض هذه البرامج يُقدّم مقابلات لأشخاصٍ عملوا مباشرةً، أو قريبًا من القيادات التي كانت قابضةً على السلطة، سواء كانت عسكرية أو شبه عسكرية، تبيّن في معظمها أنّها "شخصيات سيكوباتية".
الترجسية تُصوّر للشخص أنّ أوهامه مُحقّقة وأنّ الاعتماد على القمع هو الذي يمكن أن يُبقيه على كرسيّه
النتيجة التي يمكن أن يستخلصها المشاهد، من ذلك العدد من المقابلات، هي أنّ كلّ أو معظم تلك القيادات مصابة بشيء من النرجسيّة، وهي نمط من الأنانية المفرطة، وحب الذّات والشعور بالتفوّق. وفي بعض الأوقات، تظهر كاضطرابٍ نفسيّ، من مظاهرِه تركيزٌ مفرطٌ على الذات، وشعور مبالَغ فيه بالأهمية والتميّز، والحاجة المستمرّة للإعجاب والانتباه من الآخرين، وخرق القوانين من دون الشعور بالذنب. يُصاحِب ذلك قلّة التعاطف مع مشاعر واحتياجات الآخرين، بل وازدراء الأرواح الإنسانية، كما أنّها تُصوّر للشخص أنّ أوهامه هي مُحقّقة، وأنّ الاعتماد على القمع هو الذي يمكن أن يُبقيه على كرسيّه. كما أنّها تتّصف باستغلال الآخرين، والغيرة منهم، والاعتقاد أنّ الآخرين يغارون منه، فلولاه "ما ظهر القمر" كما قال شاعرٌ أمام صدّام حسين!.
النرجسيّة مشتقّة من أسطورة إغريقية، عن شاب جميل الحسن، أحبّ صورته المُنعكسة في الماء ومن شدّة افتنانه بها مات!.
عندما نراجع ما قام به مثلًا صدّام حسين في معظم تصرّفاته السياسية، نجد أنّ هذه النرجسيّة قابعة في شخصيته، التي تمثّلت بازدراء الآخرين، وأيضًا بأنّه قادر على فعل ما لم يفعله الآخرون من القيادات.
الحُكم النرجسيّ من العسكر مرّ على بعض بلداننا العربية ولم يُقدّم هؤلاء إلّا الخوف والاضطهاد لشعوبهم
صديق زاره إبّان الحرب العراقية - الإيرانية قريبًا من الحدود الجنوبية في العراق، وكان دوي المدافع يُسمع في ذلك المجلس، وكان الحديث في الشؤون العامة. ثم سكت قليلًا وسأل ذلك الصديق، أيّهما أكثر صلابةً أنا أم جمال عبد الناصر؟ ارتبك الصديق من دون أن يردّ، فأضاف صدّام حسين، أنظر كيف أنّي أسمع المدافع والحرب قائمة "ولم تهتز فيني شعرة" فأنا أكثر صلابةً من عبد الناصر!، عندما روى صديقي تلك القصّة تبادر إلى ذهني فكرة النرجسيّة المفرطة.
معمّر القذّافي كان ممثلًا للنرجسيّة كأفضل ما يكون، ويذكر الجميع صورته وهو بالملابس العجيبة، وقد نصّب نفسه "ملك ملوك أفريقيا"، وكان لديه فكرة أن ينشئَ الولايات المتحدة الأفريقية، ويكون هو رئيسها، هذا إلى جانب الكثير من تصرفاته الغريبة، وقد استخدم الكثير من الأدوات القمعيّة ضدّ خصومه وبشكلٍ مُفرط.
يُروى أن "جلاوزته" كانوا يدفنون المُعارض، ثم تُترك فتحة صغيرة، يخرج منها أنبوب كي يقطر منه الماء في فم الضحية حتّى تطول معاناته مع الموت!.
تلك أمثلة فقط للحُكم النرجسيّ من العسكر، الذي مرّ على بعض بلداننا العربية في فترةٍ مظلمةٍ من فترات التاريخ الحديث، ولم يُقدّم هؤلاء إلّا الخوف والاضطهاد لشعوبهم.
الانفراد بالرأي يُنتج إدراكات زائفة فتذهب الدولة إلى الجحيم
كان من أهمّ صفات هؤلاء القادة، ألّا أحد كان يستطيع أن يناقشهم في ما يقرّرونه، على العكس، كلّ من كان يحيطهم يوافق على أفكارهم الشاذّة، على أنّها عبقرية غير مسبوقة، مثل هؤلاء القادة الذين أخذوا شعوبهم وبلدانهم إلى التهلكة. كما فعل علي عبد الله صالح في اليمن، حيث قام بمجموعةٍ من التحالفات المتناقضة، أدّت في نهاية الأمر إلى قتله. وكان مُعظم المعلّقين يتحدّثون عن علي صالح بأنّه الرجل الذي "يرقص على رؤوس الأفاعي"، وكان ذلك التوصيف يُطربه، لكن في نهاية الأمر لدغته الأفاعي، فذهب إلى ربه.
القصور الشديد في المشوَرة وأخذ الرأي والرأي الآخر في القضايا المصيرية والجوهرية التي تخصّ الأوطان، هي مثلبة سياسية، وقصور في إدارة المجتمع. الآخرون لهم آراء قد لا تكون صائبةً، ولكن من الصواب والحكمة الاستماع إليها، فيُقال حتّى الساعة الواقفة، تحدّد الوقت بدقةٍ على الأقل مرتين في اليوم! فما بالك في اجتهاداتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ تخصّ الناس ومستقبلهم وقد تأخذهم الى مصيرٍ مجهول.
الانفراد بالرأي يُنتج إدراكاتٍ زائفةً، فتذهب الدولة في دوّامةٍ هابطةٍ إلى الجحيم.
(خاص "عروبة 22")