الواقع أنّ موقف تلك الدول لا يبدو غريبًا إذا اعتمدنا ممارستها ضدّ شعوبها والشعوب الأخرى عبر التاريخ. فالإرهاب في الأصل هو "صناعة غربية" مفهومًا وممارسةً بامتياز.
معلوم أنّ مصطلح الإرهاب في بُعده السياسي هو في الأساس من أصول أوروبية، إذ برز لأوّل مرّة عام 1798 في تذييل للأكاديمية الفرنسية le supplément du dictionnaire de l’académie ، ما يشير الى "إدخال الهلع والخوف والجزع والرعب في نفوس الأفراد والجماعات وخلق مناخ من عدم الأمن والاستقرار عبر إحداث أكثر ما يمكن من الأذى".
وإذا اعتمدنا هذا التعريف وسحبه على تاريخ أوروبا في العصر الوسيط والحديث، سوف نلاحظ أنّه كان أحد أهمّ الممارسات التي تمّ اعتمادها داخل المجتمعات الواحدة أو بين الدول، من ذلك حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا والتي تُعتبر من أطول الحروب في التاريخ (1337 -1453)، كما كانت مجزرة يوم القديس بارثليمو عام 1572 ضدّ البروتستانت في باريس وفي العديد من الأقاليم الفرنسية من أشنع الممارسات الإرهابية ذات الطابع الديني (الطائفي).
في عهد الثورة الفرنسية، كان الإرهاب واسعًا داخل المجتمع الفرنسي وخارجه
بل توسّعت ظاهرة العنف واشتدّت ضدّ المجتمعات غير الأوروبية خاصّة زمن "الاكتشافات" الجغرافية خلال القرن الخامس عشر، من ذلك أنّ الأعمال العدوانية ضدّ المسلمين قد بلغت ذروتها في عهد "البوكيرك"، (أشهر القادة البحريين البرتغاليين عام 1506) وبخاصة بعدما أصبح نائبًا لملك البرتغال في الهند آخر سنة 1509، ومعلوم أنّ هذا القائد كان يحمل مشروعًا ضدّ الإسلام، بل كان يروم تدمير مكّة والمدينة. كما كانت مطاردة العرب من قبل البحارة البرتغاليين في المراكز التجارية الأفريقية والهندية، وحشية، من قبيل إغراق سُفن المسلمين، بما فيها سُفن الحجّاج، على طول ساحل أفريقيا الشرقي وسواحل البحرين الأحمر والعربي والمحيط الهندي، وتعدّدت عمليّات قصف مدنهم وقراهم الساحلية بالمدافع وتدميرها، وإحراق مساجدها، وقتل الأسرى المسلمين وتعذيبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وآذانهم وأنوفهم، بمن فيهم النساء والأطفال.
أمّا في عهد الثورة الفرنسية، فقد كان الإرهاب واسعًا بين الاتّجاهات السياسية المختلفة داخل المجتمع الفرنسي وخارجه، سوى تجاه المجتمعات الأوروبية أثناء حروب نابليون ضد الملكيات الأوروبية أو خارجها.
ففي الداخل الفرنسي تنوّع الإرهاب ضدّ الأطراف المعادية لرجال الثورة، ونقرأ في تقرير أرسله رئيس لجنة حماية الثورة في منطقة سافوناني إلى لجنة السلامة العامّة: "تنفيذًا لتعليماتكم، حطّمنا جماجم جميع أطفال المنطقة، تحت سنابك خيلنا ورجالها ونسائها جميعًا، حتّى أفنينا الأسرى، الذين استسلموا من العصاة، وأصبحت الأزقّة والشوارع تضيق بجثث الموتى، وسدّت مفارق الطرق بأكوام الجماجم، التي جمعت على شكل أهرامات ضخمة".
أمّا داخل أوروبا فكتب أحـد من حضر المعارك التي خاضها جيش نابليون في إسبانيا: "كنّا نجد على طول الطريق جـنودًا اغتالهم الأنصار وكان نصف بعضهم محروقًا، على حين قطعت الأطراف الأربعة للبعض الآخر، وكان هناك جنود تمّ تعليقهم على الأشجـار، أو شنقـوا من أقدامهم وكانت الأوامر المعطاة إلينا، تقضي بأن نحرق كلّ قرية تطلق رصاصة واحدة، وأن نغرقهـا بالدماء، دون أن نستثني الأطفال والرضّع، ولم نكن نفعل طول ستّة أسابيع شيئًا سوى النهب والحرق".
ولا يبدو أنّ الأمر مختلف خارج أوروبا، في كل من آسيا وأفريقيا، إذ لم يتوقّف الإرهاب عند عمليات الغزو وحسب، بل توسّع وتضاعف وتنوّع من حرق وقتل وتدمير للبيوت والقرى والزرع ونفي وترحيل السكان الأصليين.
الفرنسيون استخدموا أشدّ الأساليب وحشية لإرهاب الشعب الجزائري
ويُعتبر ما قامت به فرنسا تجاه الشعب الجزائريّ نموذجًا لهذا الإرهاب، حيث يتّفق أغلب المؤرّخين المختصّين بفترة احتلال الجزائر، أنّ الفرنسيّين استخدموا أشدّ الأساليب وحشية لإرهاب الشعب الجزائري، وأبادوا العديد من القبائل المساندة لثورة الأمير عبد القادر والمقراني ولم يتردّد الجيش الفرنسي بقطع آذان الأسرى وسبي الزوجات والأطفال والاستيلاء على القطعان، وعرضوا النساء في المزاد العلنيّ كالدوابّ، وقطعوا رؤوس الأسرى.
ومن أبشع الجرائم التي ارتكبتها فرنسا "الديمقراطية" قصف الجزائريّين المحتفلين بالانتصار على النازيّة والفاشيّة، وذلك يوم 8 أيار/ مايو 1945 في بلدة عين الفوارة ـ سطيف، بشرقي الجزائر، ما أدّى إلى قتل ما بين 45 ألفًا إلى 70 ألف جزائري في يوم واحد، حسب التقديرات الجزائرية والبريطانية والأمريكية. أمّا ما قامت به الأجهزة الاستعمارية الفرنسية المختلفة أثناء الثورة الجزائرية بين 1954 و1962، تجاه السكّان وأعضاء جبهة التحرير فلم يكن له مثيل.
إبادة نحو 100 مليون من الهنود الأمريكيين الأصليين، وقتل الأميركيين السود على أيدي العنصريين البيض
لا يختلف عنف الأمريكيين وإرهابهم ضدّ الهنود الحمر عمّا قامت بها الدول الاستعمارية الأوروبية، فمنذ القرن السابع عشر تمّت إبادة نحو 100 مليون من الهنود الأمريكيين الأصليين، دون الحديث عن قتل الأميركيين السود على أيدي العنصريين البيض زمن العبودية إلى حدود عام 1919، وفي هذا العام تعرّض مئات الرجال من الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية من الرجال والنساء والأطفال للحرق أحياء، أو تعرّضوا لإطلاق النار والشنق والضرب حتى الموت على أيدي البيض وأحرقت آلاف المنازل والشركات المملوكة للسود وطُرد أهلها، ما أدّى إلى إطلاق وصف "الصيف الأحمر" على تلك الأيّام.
مآسي هيروشيما وناغازاكي، ومذبحة 3 ملايين فيتنامي و5 ملايين كوري
أمّا خارج الولايات المتّحدة الأمريكية فكانت مآسي هيروشيما وناغازاكي، ومذبحة 3 ملايين فيتنامي بين 1955-1975، أو قتل نحو 5 ملايين كوري عام 1950 من المدنيّين والعسكريّين، أو الجرائم التي ارتُكِبت أثناء الحرب الأمريكية في أفغانستان بين 2001 و2014، والتي أودت بحياة نحو 47245 مدنيًا أفغانيًا وما يتراوح بين 66 ألفًا و69 ألف جندي وضابط شرطة أفغاني، وما يتراوح بين 200 ألف و250 ألف مدني، دون الحديث عما خلّفته تلك الحروب من أمراض وعاهات نتيجة إلقاء القنابل الفسفورية.
تأسيسًا على ما سبق، مُحقّ لنا التساؤل: على من ينطبق تعريف الإرهاب إذن؟ هل على سلوك تلك الدول التي تدّعي رعايتها للقانون وحقوق الإنسان وها قد سارعت بنجدة الدولة الصهيونية بالبوارج وحاملات الطائرات والمال والخبراء والدّعم المعنوي، وكأنّها في مواجهة جيوش جرّارة منظّمة لدول عظمى، أم على مقاومة تناضل من أجل تحرير أرضها من كيان صهيوني حاصر غزّة لمدة نحو عقدين وكثّف من عزلتها بعد "طوفان الأقصى" بقطع الماء والكهرباء ومنع دخول الطعام والأدوية، وقتل نحو 11 ألف مدني فلسطيني بينهم 4324 طفلًا و2823 امرأةً و649 مسنًّا بالإضافة إلى 26475 إصابة إلى حدود اليوم الـ33 من الحرب على غزّة، تجسيداً لنظرية هرتزل الذي كتب: "يجب علينا تأليف حملة صيد كبيرة، ومن ثمّ تجميع الحيوانات كلّها معًا، ونلقي وسطها القنابل المميتة".
ألم يصرّح وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت: "نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرّف وفقًا لذلك"؟
مَن الأحق والحالة هذه بتوصيف الإرهابي؟.
(خاص "عروبة 22")