لقد وُظّفت هذه الآليات بشكل متفاوت من بلد لآخر ومن فترة زمنية لأخرى، إلا أنّها لم تكن بالفعالية المرجوة عمومًا، ولم تُنتج الأثر التنموي المرتقب، أي تقليص نسب الفقر والهشاشة وتحسين جودة الحياة وخفض نسب وفيات الرضع والأمهات ورفع نِسب التمدرس خاصة لدى الإناث، وغيرها من المؤشرات التي ظلّت تراوح المنحنيات السالبة رغم إنفاق مليارات الدولارات من أجل تحسين أداء هذه المنظومة التي كشفت مجموعة من التقارير والأبحاث (تقرير منظمة "الإسكوا/الأمم المتحدة حول الحماية الاجتماعية في الدول العربية لسنة 2019) عن أوجه قصور عديدة، كعدم شمول الحماية الاجتماعية لعموم المواطنين، وعدم فعالية منظومة دعم للسلع والمنتجات وعدم فعالية أنظمة التغطية الصحية خاصة الموجهة لغير المشتركين، إضافة إلى هزالة التعويضات والمساعدات التي لا توازي سرعة ارتفاع الأسعار والخدمات التي تأثّرت بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية بفعل توالي الأزمات وحدّة الآثار الناجمة عنها.
إصلاح الإطار التشريعي المُنظّم لعمل مؤسسات الحماية الاجتماعية التي شارف عدد منها على الإفلاس
لقد حاولت معظم الدول العربية مواجهة هذا القصور عبر إقرار مجموعة من الإصلاحات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عملت المملكة المغربية خلال السنوات الماضية على إعادة النظر في منظومتها للحماية الاجتماعية، وذلك عبر إصلاح الإطار التشريعي المُنظّم لعمل مؤسسات الحماية الاجتماعية التي شارف عدد منها على الإفلاس بعد تسجيل تعاظم في النفقات المتعلقة بنظام التقاعد والمعاشات ونظام التغطية الصحية الإجبارية وخلل في التوظيفات الاستثمارية.
وهو ما دفع نحو التفكير في إصلاحات هيكلية عبر دمج عدد من هذه المؤسسات، وتجميع أرصدتها المالية وفرض رقابة صارمة على توظيفاتها الاستثمارية، إلى جانب ذلك تمّ العمل على توسيع قاعدة المشتركين في هذه الأنظمة عبر التوجّه للعاملين في القطاع غير المُهيكل/النظامي، الذين لم تكن تشملهم أنظمة الحماية الاجتماعية، سواء تعلق الأمر بالتغطية الصحية أو المعاش أو التعويضات الأسرية والتعويض عن فقدان الشغل، وهو ما مَكّنَ هذه المؤسسات من تغذية أرصدتها وتأجيل خطر الإفلاس إلى فترات لاحقة.
موازاةً مع ذلك، عملت الحكومة على التكفّل بغير المشتركين في هذه الأنظمة، حيث أقرّت في البداية نظام " راميد" للتغطية الصحية الإجبارية المجانية، غير أنه سرعان ما أظهر محدوديته، إذ تعاظم الضغط على المستشفيات وتراجعت جودة الخدمات الصحية جراء تعثّر أداء التزامات الحكومة المالية وقلّة الموارد البشرية.
وهو ما كان له أثر سلبي على أدائها ودفع باتجاه التفكير في نظام عام وشامل يوزّع الضغط بشكل متساوي بين المؤسسات الاستشفائية الخاصة والحكومية ويضمن توصّل المستشفيات باعتماداتها المالية ويرفع من جودة الخدمات الصحية الممنوحة.
من الاستهداف العام إلى الاستهداف المباشر
في السياق نفسه، ورغبةً في توفير سلّة دعم وخدمات اجتماعية شاملة تُمكّن الأسر خاصة الفقيرة والهشة من مواجهة تكاليف المعيشة، تمَّ إقرار نظام مساعدة اجتماعية يقوم على مبدأ الاستهداف المباشر عبر منح مساعدات مالية شهرية بناءً على الوضع المادي للأسر وعلى عدد أفرادها، مع وضع نظام تمييز إيجابي لصالح الأطفال والمسنّين.
لقد عوَّض هذا النظام الجديد نظام الاستهداف العام الذي أثبت محدوديته، حيث كان الدعم يشمل السلع عوض الأفراد، بموجبه كانت سلع كالغاز الطبيعي والسكر والدقيق والمحروقات المهنية تُدعم بمبالغ كبيرة من أجل ضمان استقرار أسعارها، وهو ما كان يستفيد منه الفقير والغني على حدٍ سواء، وهو ما جعل البعض يصفون هذا الدعم بالأعمى ودفعهم إلى المطالبة بنظام استهداف مباشر، الأمر الذي سوف يُشرع في تنزيله بداية سنة 2024 بعد استكمال الإجراءات القانونية والتقنية المرتبطة به، خاصة تلك المتعلقة بالسجل الوطني الاجتماعي الذي يضم معطيات دقيقة عن الأسر المستفيدة من الدعم، والذي سيشكّل آلية للتتبع والتقييم ستمكّن لأوّل مرّة من رصد أثر منظومة الدعم على المستفيدين منها.
التركيز على دعم الطبقات الهشّة قد يؤدي إلى انحدار أُسر الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة
التوجه نحو إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية لم يكن خيارًا بالنسبة للمملكة المغربية، كما هو الشأن بالنسبة لعدد من الدول العربية، التي جرّبت وصفات عدة لعلاج آفاتها الاقتصادية والاجتماعية، وهي آفات تعاظم أثرها بعد جائحة "كوفيد" والصدمة التضخمية الأخيرة، الأمر الذي أسهم في تدهور الأوضاع المعيشية لعدد كبير من الأسر، واستدعى التفكير في آليات لكبحه وتحسين الأوضاع حتى لا تتكرّر سيناريوهات الاضطراب الاجتماعية كالتي شهدتها المملكة المغربية خلال ثمانينات القرن الماضي، وذلك عبر إقرار سلسلة من الإصلاحات التي طالت قطاعات الحماية الاجتماعية والصحة والتعليم، وهي إصلاحات قد تواجه مجموعة من التحديات، خاصة تلك المتعلقة بالاستدامة المالية، حيث لا تزال منظومة الحماية الاجتماعية في المغرب مرتبطة بقاعدة الاشتراكات والدعم الحكومية وهو ما يجعل شبح الإفلاس قائمًا في ظل غياب بدائل تمويلية مبتكرة.
من جهة أخرى، قد يؤدي التركيز على دعم الطبقات الهشّة والفقيرة دون الاكتراث لمصير الطبقة المتوسطة، في ظل إلغاء نظام الدعم العام للسلع والمنتجات، إلى انحدار عدد كبير من أُسر الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة، وهو ما قد يٌعاظم الضّغوط على منظومة الحماية الاجتماعية، وهي تحديات تستدعي تفكيرًا استشرافيًا وتدخلًا استباقيًا حتى لا نُضطر مرّة أخرى إلى هدم المنظومة وإعادة بنائها من جديد، ما سيكلّف ثمنًا باهظًا على المستويين الاقتصادي والتنموي، وهذا تخوّف يطال العديد من الدول العربية، في المغرب العربي والمشرق العربي على الخصوص.
(خاص "عروبة 22")