اقتصاد ومال

الأثرياء الأكثر مديونيّة في العالم!

تتجاهل مطبوعات صندوق النقد والبنك الدوليَيْن، أي إشارة لمديونيّة الدول الرّأسمالية الكبرى وكلّ الدول التي تدخل ضمن تصنيف "دول الدخل المرتفع"، عند حصر الدول المدينة في تقرير الديون العالمية والتقارير الأخرى التي ترصد مديونيّات دول العالم، إذ يقتصر الرصد على مديونيّات الدول النامية والناهضة، وكأن الديون سُبّة لا تُلصق إلّا بالدول النامية! ويذكّرني ذلك بالديون البريطانية لمصر خلال الحرب العالمية الثانية والتي بلغت نحو 400 مليون جنيه استرليني في نهايتها (تعادل 12 مليار جنيه استرليني على الأقلّ بأسعار الوقت الراهن)، والتي ماطلت بريطانيا في سدادها حتى في صورة سلع، ولم تسمّها دينًا أبدًا، بل أسمتها "الأرصدة الاسترلينية"!.

الأثرياء الأكثر مديونيّة في العالم!

يُعتبر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (يونكتاد - UNCTAD) استثناءً من هذا الأمر، إذ ينشر مديونيّات الدول الرأسمالية الغنية. وفي أحدث تقريرٍ له عن الديون العالمية، أشار إلى أنها بلغت 102 تريليون دولار، وبلغت حصّة الدول الرأسمالية الغنية والمتقدّمة منها، نحو 71 تريليون دولار، بواقع 69.6% من إجمالي الديون العالمية. أي أنّ الأكثر ثراءً هم الأكثر مديونية!

الولايات المتحدة... المدين الأكبر الذي ينهب العالم

تتصدّر الولايات المتحدة قائمة الدول المدينة في العالم، إذ بلغ الدين العام الأميركي عام 2024، نحو 35.3 تريليون دولار، ما يُعادل 34.3% من الإجمالي العالمي، على الرَّغم من أنّ عدد سكّان الولايات المتحدة لا يزيد عن 4.2% من إجمالي سكان العالم. وقد وافق الكونغرس الأميركي على رفع سقف هذا الدين إلى أكثر من 36 تريليون دولار عام 2025، بما يعادل 124% من النّاتج المحلي الإجمالي الأميركي. وتعتبر دول الفوائض التجارية وعلى رأسها الصين، هي المشتري الأجنبي الأكبر لسندات وأذون الخزانة الأميركية، وبالتالي هي الدائن الأكبر للولايات المتحدة.

تحتاج الإدارة الأميركية للاقتراض نتيجة عجز الموازنة العامّة للدولة

ومع اتجاه الصين لتقليل استثماراتها في أدوات الديْن الأميركية، ضمن تحوّلها العام عن الأوعية الدولارية وعن تسوية تعاملاتها الخارجية بالدولار، سعت الولايات المتحدة للبحث عن مستثمرين آخرين في أدوات الديْن الأميركية. وكانت زيارة ترامب لدول الخليج في مايو/أيار الماضي، خطوةً كبرى في هذا المسعى لتأمين مُقرضين جددٍ للحكومة الأميركية، كبديلٍ للصين.

وتعتبر تعهّدات السعودية والإمارات وقطر لترامب، بضخّ استثماراتٍ هائلةٍ في الاقتصاد الأميركي، بمثابة التزامات في الجزء الأكبر منها بشراء سندات وأذون الخزانة الأميركية، لأنّه الشكل الرئيسي لاستثماراتها الحكومية في الولايات المتحدة، باعتبارها الأكثر أمانًا وضمانًا في السوق الأميركية، فضلًا عن العائد المُعتدل بالمقارنة مع الأوعية الاستثمارية الأخرى الأقل أمانًا. وقد بلغت تعهّدات السعودية بالاستثمار في الولايات المتحدة 600 مليار دولار على مدار 4 سنوات (مدّة الفترة الرئاسية لترامب)، بينما بلغت التعهّدات القطرية للتعاون الاقتصادي وضمنها الاستثمارات نحو 1.2 تريليون دولار، وبلغت التعهّدات الاستثمارية الإماراتية 1.4 تريليون دولار خلال 10 سنوات.

إفراط البنك الاحتياطي الفيدرالي بالاتفاق مع الإدارة الأميركية في إصدار الدولارات لتغطية سداد الديون

وتحتاج الإدارة الأميركية للاقتراض نتيجة عجز الموازنة العامّة للدولة والذي بلغ نحو 1800 مليار دولار في العام المالي المنتهي في سبتمبر/أيلول 2024. وتفاقم هذا العجز ليبلغ نحو 1.15 تريليون دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام المالي الأميركي الراهن. وبما أنّها لا تسدّد ديونها، بل تستبدل الديون الجديدة بالقديمة مع رفع سقفها تدريجيًا بقرارٍ من السلطة التشريعية، مع إفراط البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بالاتفاق مع الإدارة الأميركية في إصدار الدولارات لتغطية سداد الديون التي يحلّ أجَلها، ولتغطية التوسّع في التجارة الدولية التي تتمّ تسوية جانبٍ كبيرٍ منها بالدولار، فإنّ ذلك يعني في التحليل الأخير أنّ العالم يقدّم سلعه وخدماته للولايات المتحدة مقابل مجرّد أوراق نقدية (دولار) أو مالية (أذون وسندات الخزانة) لا غطاء لها من الذهب، إذ كفّت الولايات المتحدة عن الالتزام بتحويل الدولار إلى ذهبٍ منذ عام 1971، ولا غطاء لها من الإنتاج بحيث كفّت منذ عهد ريغان عن ربط إصدار النقد أو أذون الخزانة بالنموّ في الناتج.

كما تستدين الولايات المتحدة بسبب عجز موازينها الخارجية، فهي تعاني من عجزٍ تجاريّ لم ينقطع منذ خمسة عقود، وبلغت قيمته من عام 1990 وحتّى عام 2022، نحو 19.9 تريليون دولار. كما بلغ صافي العجز في ميزان الحساب الجاري منذ عام 1977 وحتى عام 2024، نحو 17.8 تريليون دولار. وهذا العجز المُتراكم عبر سلسلةٍ زمنيةٍ طويلةٍ تتضاعف قيمته مرّات عدّة إذا احتُسب بدولارات الوقت الرّاهن.

الصين واليابان... المديونيّة محلّية بالأساس

تأتي الصين في المرتبة الثانية بمديونيّة إجمالية بلغت قيمتها نحو 16.6 تريليون دولار عام 2025، تُعادل 86% من النّاتج المحلي الإجمالي المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف، ونحو 40.8% من الناتج الحقيقي المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية في العام المذكور. والغالبية الساحقة ديون محلية، أي ديون للمواطنين والبنوك والشركات المحلّية ممّن يشترون سندات وأذون الخزانة الصينية، وليست ديونًا مستحقةً لدول أو لشركات وبنوك أجنبية، وبالتالي فإنّها قضية محلّية صرف تقريبًا.

وتأتي اليابان في المرتبة الثالثة بين أكبر المدينين في العالم، بمديونيةٍ بلغت 9528 مليار دولار، تُعادل 228% من ناتجها المحلّي الإجمالي عام 2025، لكنّها مثل الصين مديونيتها محلّية بالأساس.

الأثرياء المدينون في الغرب

تأتي بريطانيا في المرتبة الرابعة بين أكثر المدينين في العالم بمديونيةٍ بلغت نحو 3689 مليار دولار، تلتها فرنسا بمديونيةٍ بلغت 3576 مليار دولار، ثمّ إيطاليا بمديونيةٍ بلغت نحو 3209 مليارات دولار، فالهند بمديونيةٍ بلغت 3177 مليار دولار، تلتها ألمانيا بمديونيةٍ بلغت 2976 مليار دولار، وكندا بمديونيةٍ بلغت 2482 مليار دولار. وهذه الدول هي الأكبر مديونيةً في العالم، على الرَّغم من ثرائها باستثناء الهند.

انخفاض أسعار الفائدة لا يمنع رفعها وفرض الشروط السياسية والاقتصادية على الدول النامية المُقترضة

ونتيجةً لواقع أنّ الدول الرّأسمالية الغنية والمتقدّمة وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي المُقترض الرئيسي، فإنّها عملت على تخفيض أسعار الفائدة قدر الإمكان، وبخاصة منذ الكساد العظيم الثاني عام 2008، بحيث انخفضت أسعار الفائدة لأدنى مستوى لها منذ نصف قرن. لكنّ ذلك لا يمنع رفع أسعار الفائدة وفرض الشروط السياسية والاقتصادية على الدول النامية المُقترضة من الأسواق المالية، تحت دعوى ارتفاع المخاطر وتدنّي التصنيف الائتماني!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن