بصمات

النهضة العربية في ذكرى نهضويين (2/1)الطهطاوي: رائد الترجمة والتربية

من المفيد في هذه الظروف أن نستعيد النهضة في القرن التاسع عشر وتجربتها وإعلامها. خصوصًا أن الأوساط الثقافية في مصر تستذكر مرور مئة وخمسين سنة على وفاة رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873). كما تستذكر الأوساط الثقافية اللبنانية مرور مئة وأربعين سنة على وفاة المعلم بطرس البستاني (1819-1883)، علمًا بأن كلّ واحد منهما هو الشخصية الأبرز والمعبّر عن تجربة النهضة في كل من مصر ولبنان. ذلك أن التجربة النهضوية المصرية كانت نتاج الدور الذي لعبه العاهل ولعبته الدولة في التحديث، وهي التي أوجدت جيلًا من المتعلّمين عبر افتتاحها المدارس وإيفاد البعثات إلى أوروبا للتعلّم وتلقي الخبرات التقنية والعسكرية. أما في لبنان فقد كانت النهضة نتاج المجتمع الأهلي والتفاعل مع الإرساليات الأجنبية وظهور الصحف التي قام بأعبائها أفراد، وفي مقالتين نستعيد تجربة كل من الطهطاوي والبستاني.

النهضة العربية في ذكرى نهضويين (2/1)
الطهطاوي: رائد الترجمة والتربية

من المعلوم في سيرة رفاعة الطهطاوي أنه درس في الأزهر، ونظرًا لنباهته رشّحه أستاذه الشيخ حسن العطار لدى والي مصر محمد علي باشا ليكون إمامًا للبعثة التي سيوفدها إلى باريس.

أمضى الطهطاوي خمس سنوات (1826- 1831) في العاصمة الفرنسية، اكتشف خلالها المدنية الأوروبية وخصائصها. وكتب عن رحلته وإقامته في باريس كتابًا شهيرًا هو: تخليص الابريز في تلخيص باريز، وفيه تحدث عن العلوم والعادات الاجتماعية واطلاع الفرنسيين على تاريخ العرب وتراثهم. ومن بين أبرز ما ضمّنه كتابه ترجمته للدستور الفرنسي. وذكره لأحداث الثورة عام 1830 على ملك فرنسا (شارل العاشر). وفي سنة 1835، أُسندت إليه إدارة مدرسة الترجمة المعروفة باسم مدرسة الألسن التي كان من مهماتها تدريب المترجمين وترجمة الكتب العلمية التي يحتاج إليها الخبراء في أمور الصناعة العسكرية وغيرها، وخصوصًا مواد الرياضيات والطبيعيات. وفي تلك الفترة من عهد محمد علي باشا أشرف على جريدة الوقائع المصرية، وهي الجريدة الرسمية التي كانت تصدر بالعربية.

ما يمكن تلخيصه من تجربة الطهطاوي أنه يعبّر عن النهضة المصرية التي كانت نتاجًا لإرادة الحاكم

أُبعد رفاعة إلى السودان في عهد الوالي عباس باشا، ليعود بعدها إلى مصر في عهد الوالي سعيد. إلا أنّ فترة عطاء الطهطاوي هي السنوات العشر التي أمضاها في ظل الخديوي إسماعيل الذي تولى حكم مصر عام 1863.

في تلك الفترة تسلّم الطهطاوي المهمات البارزة مثل إصدار مجلة روضة المدارس والهدف منها تربوي تنشر المقالات المتخصصة ويحرّرها أساتذة معروفون أمثال عبد الله فكري وصالح مجدي ومحمد قدري، كما أشرف على قلم الترجمة، الملحق بروضة المدارس.

في السنوات العشر الأخيرة من حياته، كتب الطهطاوي العديد من المؤلفات، منها في السيرة النبوية: نهاية الايجاز في سيرة ساكن الحجاز، وتاريخ مصر القديم: تاريخ مصر والعرب قبل الإسلام، ورسالة: القول السديد في الاجتهاد والتجديد. أما أهم كتبه على الاطلاق: المرشد الأمين للبنات والبنين، وقد ضمّنه أراءه في التربية وضرورة تعليم الإناث. وكتاب: مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، وهو كتاب في الوطنية المصرية ضمّنه الطهطاوي خبرته وعلومه في مسائل النظام الأمثل وحاجة مصر إلى المرافق الزراعية والصناعية.

بعد احتلال مصر 1882، أصبح السؤال كيف نستفيد من تجربة أوروبا ونتفادى أخطارها

وما يمكن تلخيصه من تجربة الطهطاوي أنه يعبّر عن النهضة المصرية التي كانت نتاجًا لإرادة الحاكم في زمن محمد علي باشا أو في عهد الخديوي إسماعيل، وهذا الأخير كان لديه مشروع تحديثي يشمل التعليم والجيش والصناعة والآداب والعمران.

أما الطهطاوي، فإنّ أعماله الفكرية تعبّر من جهة على انفتاح على العلوم والآداب الحديثة في أوروبا. وقد حاول في كل أعماله وخصوصًا في كتاب مناهج الألباب أن يوفّق بين الحداثة وبين تعاليم الإسلام. فقد عاش في الفترة القصيرة التي انخفض فيها التوتر بين عالم الإسلام وأوروبا، وهي الفترة التي تعرف بـ عصر التنظيمات التي استمرت لبضعة عقود قبل أن تنكشف نوايا الدول الأوروبية الاستعمارية. ففي عصر النهضة كان السؤال: كيف يمكن الاستفادة من علوم أوروبا، أما بعد احتلال مصر 1882، أصبح السؤال كيف نستفيد من تجربة أوروبا ونتفادى أخطارها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن