بصمات

منحى الحسّ الإنساني في السياق العالمي الرّاهن

إنّ مُساءلة منحى القيم الإنسانية راهنًا يدلّ، بمعنى ما، على وجود انحناءاتٍ وتعرّجاتٍ لافتةٍ تُنذر بتحوّلاتٍ تمسّ الفعل الإنساني في خضمّ المشترك الكوْني، لم تكن في الحسبان أو على الأقلّ تمّ تهميشها في الوعي العربي لعقود، تحت مُسمّياتٍ عدة. هذه المساءلة، على الرَّغم من أنّها تتأطّر وفق رؤية فوقية تقف على هامش هذا المسار، إلّا أنّها ضرورة لرصد وضع القيم الإنسانية الكونية راهنًا.

منحى الحسّ الإنساني في السياق العالمي الرّاهن

يعيش العالم اليوم على وقع ازدواجيةٍ تجمع ما بين انتعاش الحسّ القيمي وانهياره على المستوى السياسي الدولي، هذه الازدواجية التي ترسم في الآن نفسه بونًا شاسعًا ما بين الأنظمة السياسية والقاعدة الشعبية، وإن كان هذا البون ضعيفًا في الغرب مقارنةً بالسياق العربي (أشكال دعم فلسطين نموذجًا)، إلّا أنّ الحسّ الإنساني الذي عمل المجتمع الدولي، بعد الحربَيْن العالميّتَيْن، على مأسَسَته وهيكلته وفق هيئات ومنظمات عالمية تسعى لتنظيم العيش المشترك وفق القيم الإنسانية المنشودة، نعيش اليوم على وقع انهياره أو فشله لصالح صعود العنف والحرب والتهجير والتطهير العِرقي والعربدة السياسية والعسكرية.

ترقى الحرب الدائرة اليوم في الشرق الأوسط إلى حربٍ وجوديةٍ، ومن صفاتها أنّها تنطلق من أرضيةٍ حدّيةٍ متطرّفةٍ، لا وجود فيها لمساحةٍ قد تسمح ببناء اختيارات خارج هذين الحدّين المُحدّدين لكلّ طرف: الوجود أو العدم. إنّ هذا النوع من الحروب يتغذّى على الوازع الديني المُحايث للوجود الدنيوي، إسرائيل وإيران نموذجا. في ظلّ هذا السياق، لا يمكن أن يُبنى منطقٌ يحدّد أرضيةً محايدةً للقيم الإنسانية، لأنّ الإنسان هنا يفقد أهم شحنته: نزع المَيْلِ نحو التطبيع مع الشرّ البشري.

الانكسار الأخلاقي القيمي يُنتح قناعات انهزامية استسلامية

هذا الشرّ الذي صار يأخذ شكلًا مُدمّرًا يخضع في ثناياه المعطى المعرفي (التطور العلمي والتقني...) لخدمة التوجّهات الإيديولوجية التي تتغذّى بدورها على الانغلاق / الاصطفاء الديني العِرقي والقومي، ممّا يسلب المشترك الكوني آليات وجوده، وكذا إمكانات استمراره خارج الصراع والحروب. فهذا المَيْلُ البشري يتغذّى أو يتمّ تغليفه غالبًا بإيديولوجيا ذاتية تُسيّج الرؤى الكونية عند كلّ طرف وتسحبه من دائرة التعايش المتعدّد الرؤى، فيُصبح الخير والشرّ مفاهيم ذات شحنات معيارية تعبّر عن مركزيةٍ ذاتيةٍ مُغلقة.

تبعًا لما سبق، يمكننا استخلاص الآتي:

ــ على الرَّغم من التراجع القيمي في السياق العالمي، إلّا أنّ الحسّ الإنساني مبتغى ومطلوب، لأنّه السبيل الوحيد لاستمرار العيش الكوني المشترك.

ــ غالبًا ما يُنتج الانكسار الأخلاقي القيمي قناعاتٍ انهزاميةً استسلاميةً، خصوصًا بالنسبة للطرف الضعيف (السياق العربي)، سواء على مستوى الوعي الثقافي الخاص بالنّخبة أو في التمثّل العامّي؛ الأول يتعلّل بلا جدوى التفكّر أمام التسارع المُتنامي للعقل التقني والعلمي الغربي، لهذا غالبًا ما ينصهر في مسار القوالب السياسية المُؤطّرة للتوجّه العام الخاص بالسياسات الوطنية، فيفقد بذلك أهمّ مقوّماته المعرفية؛ أمّا الثاني فيُدلّل على الأمر بالعدل الإلهي القائم على ضرورة انتصار الخير، فنكون أمام مطلب خلاصي مفارق يُحايث، في الآن نفسِه، المعيش اليومي (ومن هنا تناقضه المفضي إلى لا جدواه).

التحالف الغربي هو جوهر قوة الغرب وهو ما يغيب في السياق العربي

ــ مأسَسَة أرضية المشترك الكوني على القيم الإنسانية لا تعتمد بالضرورة، ولا يجب أن تعتمد فقط على المأسَسَة الفكرية الغربية التي تبَيّن تهافتها بشكلٍ معلنٍ وصريحٍ، بل يجب أن تكون هناك أرضية موازية لدى الشعوب التي تُخندق وجودها بباب المُستهدف أو الضعيف، لأنّ الراعي الأساسي لهذه القيم يُخضعها بدوره لتعاليه الوجودي المدعوم علميًا ودينيًا وسياسيًا، فتصير الشعارات القيمية مجالًا لتمرير وفرض قيمٍ لا إنسانية تقتات على كلّ أشكال العنصرية التي ترفع مكانة "الأنا" الراعي وتنفي في المقابل الآخر التابع.

ــ لا يخضع الخير والشرّ بالضرورة للمقاربة الإنسانية التي نأملها بقدر ما يخضع للمقاربة المعيارية (الجانب الإيديولوجي لكلّ طرف)، لهذا فالانزياح خارج المأمول لا يجب أن يواجَه بالذهن الانهزامي والاستسلامي الذي يعمل على رسم مسافةٍ مُتعاليةٍ عن الواقع، بل بحركيةٍ ثقافيةٍ وتأمليةٍ تخلق، بقدرٍ ما، تفاعلًا مع الواقع في راهنه وحدثيّته.

مسار الغرب ذو الجذور الدينية والعِرقية يُعيد مساءلة مفهوم العَلمنة التي تجلّت على شكل ازدواجيةٍ تكيل بمكيالَيْن

ــ التحالف الغربي هو جوهر قوة الغرب، وهو ما يغيب في السياق العربي الذي يتعلّل بالطائفية والمصالح الوطنية وطبيعة الأنظمة السياسية والتوجّهات الإيديولوجية، فنكون إزاء ذاتَيْن؛ الأولى تشعر بالتفوّق المستدام باستدامة التحالف الغربي (إسرائيل والدعم الغربي)؛ أمّا الثانية فتخضع لتوابع الضعف والاستهداف والمؤامرة (الذاتية والخارجية).

في الحقيقة، هذا التحالف الغربي الذي يعكس مسارًا تاريخيًا ذا جذور دينية وعِرقية يُعيد مساءلة مفهوم العَلمنة في السياق الغربي، التي تجلّت على شكل ازدواجيةٍ منظوريةٍ تكيل بمكيالَيْن، ممّا ينتج عنه عنصرية ترسم لعتباتٍ وجوديةٍ متفاوتةٍ وتراتبيةٍ تقود بالضرورة إلى التنقيص من الآخر وتستبيح وجوده، لهذا فإنّ نزع العَلمنة أو عودة الدّيني بشكلٍ ما، يكمن في ثنايا المشروع الغربي المُعَلمن.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن