تبلور ذلك فعليًا مع دخول العالم عصر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بما هو مجموع تطبيقات وبرامج تجعل الحاسوب قادرًا على أداء مهام قريبة من مهام العقل البشري، تلك التي تتطلّب التعلّم وتنظيم الذاكرة والتفكير المنطقي، من خلال تزويده بالبيانات الصحيحة والبرامج المناسبة التي تجعله قادرًا على مراكمة الخبرة والاستجابة لما يرد عليه من مشكلات ووقائع.
إنّ عصر الذكاء الاصطناعي هو عصر ينحو فيه المهندسون والعلماء نحو صنع عقل آلي 'مُشَرَّب بإكسير الحياة'، وهذا العقل الآلي سيكون عليه أن يفعل أكثر من مجرد الحضور في العالم كآلة أو رقاقة، سيكون عليه أن يتكيّف وأن يتغيّر وأن يستجيب وأن يشعر ويتعاطف، سيكون عليه في جملة واحدة أن يكتسب استقلاله الذاتي، وأن يفرّ من التحكّم البشري تمامًا مثل شخصية "فرانكشتاين".
يعيش العرب حاليًا في عالم البين-بين... ونقف على حدود "هذا المجهول"
يقدّم هذا المشروع اليوم، مغلّفًا بفكرة صالح الإنسانية والعالم ونشر الخير، وحلّ مشاكل البيئة والكوارث الطبيعية وقضايا التخلّف والفقر والأمّية وأشكال الفساد. في مقال نُشر حديثًا، أبرز "براد سميث"، وهو مسؤول في "مايكروسوفت"، أنّ الشركة أطلقت برنامج "الذكاء الاصطناعي من أجل الأرض"، وأضاف أنّ ذلك سيسهم إلى جانب علوم البيانات والبيئة والخبرة الإنسانية في مواجهة التقلّبات المناخية في إفريقيا، وإنقاذ المزيد من الأرواح وتخفيف المعاناة، فأين موقع العرب من كل ذلك؟
ذكر "الجابري" سابقًا أنّ العرب يحيون تحت تأثير بنية نفسية لاشعورية مغايرة للغرب، تشمل نظرة العرب إلى أنفسهم وإلى العالم والغير، وهي تعبّر عمّا يتوقون إليه ويحيون على أمل بلوغه، مثال ذلك أن يستيقظ العرب يومًا وقد حازوا استقلالهم الفعلي، وتوحّدت شعوبهم وذابت خلافاتهم، وأقيم صرح الديمقراطية ودولة الحق والقانون على أرضهم، وانتصرت القضية الفلسطينية، ونعمت البلدان العربية بخيرات وعقول أبنائها، بدل أن تصدر لينعم بها غيرها، فهل بإمكان الذكاء الاصطناعي أن ينسجم مع مشكلات العرب؟ مثلما يسعى جاهدًا لينسجم مع مشكلات الغرب، مع مشكلات الصناعة والتطوّر التقني ومجتمعات المعرفة والإنتاج والتبادلية.
يعيش العرب حاليًا في عالم البين-بين، ويشكّل الذكاء الاصطناعي الحدود الجديدة للعبور نحو عالم مجهول لم تتضح سماته ومآلاته بعد، حدود لم تسهم البيئة العربية في بنائها، ولكن ذلك لم يمنع من سقوط مخرجاته عليها. نقف على حدود هذا المجهول المسمّى ذكاءً اصطناعيًا والعرب لا يقرأون ولا يكتبون، ولا يسهمون في بناء محتوى لغتهم وثقافتهم على الإنترنت إلا القليل، في ماذا يفيد مثلًا تطبيق "شات جي بي تي / Chat GPT" إذا كان محتوى العربية أقلّ بكثير من محتوى الإنجليزية؟
لا بدّ للعرب من مواكبة هذه الموجة التي تشكّل الوجه الجديد للعالم
عبور هذه الحدود سيؤدي إلى فجوات جديدة، ويزيد من استفحال الفجوات التقليدية (فجوة التعليم والدخل والصحة والصناعة والإنتاج والأمن وغيرها)، وسيكون على البنية النفسية اللاشعورية للعرب أن تواجه صدمة جديدة بعد صدمة الاستعمار والحداثة، إنها صدمة الذكاء والفاعلية الآلية، في مقابل تخلّف ومحدودية ذكاء وفاعلية العقل العربي، فهل بإمكان العرب اللحاق بسباق الذكاء الاصطناعي؟
ما يروّج حاليًا في الإعلام العربي وحتى الأنشطة البحثية والعلمية في الجامعات ومراكز البحث العربية يؤكد أنّ الأمر ممكن، بل يذهب البعض إلى اعتبار "الذكاء الاصطناعي هو المستقبل، ولا بد للعرب من مواكبة هذه الموجة التي تشكل الوجه الجديد للعالم"، من طريق تبني أحدث التقنيات والمؤسسات والمعايير والخطط، لتوطين الذكاء الاصطناعي واستخدامه، وكسب مراتب مقبولة فيما سمّي بالمؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي، وليس من طريق إنتاج المعرفة وتوفير الشروط الثقافية والبيئة والاقتصادية المناسبة للمساهمة في إنتاجه أو تطويره.
خسر العرب سباق الحداثة والتقدّم والتقنية، وحتى لا يخسروا سباق الذكاء الاصطناعي، سيكون لزامًا عليهم تغيير التحكم الآلي الذي يسعى العقل الغربي لفرضه على العالم، ذلك أنّ هذا النوع من التحكّم بحكم تعقّده وتفاعلاته المتشابكة لن يدوم طويلًا فيتحوّل عبودية طوعية أو جبرية، على العرب أن يستعدوا لها جيدًا قبل اتخاذ قرار العبور.
(خاص "عروبة 22")