مفارقة الوضع الحالي غير مسبوقةٍ في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، لأنّه في مقابل التوجّه العربي والفلسطيني للسلام، كانت هناك دائمًا تيّارات سياسية في تل أبيب مُؤيّدة للتسوية والسلام ليس فقط في أوساط اليسار والقوى الداعية للسلام، إنّما حتّى في داخل الحزب اليميني المتشدّد "الليكود" الذي قابل خطوة الرئيس أنور السادات المُنفردة بزيارة القدس والتوقيع على اتفاق سلام بالانسحاب من سيناء وإعادتها للسيادة المصرية. أمّا "ليكود نتنياهو" فهو يرفض "حلّ الدولتَيْن" ويرفض "حماس" والسلطة الفلسطينية ويرفض من الأساس الاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في الوجود واختيار ممثليه.
مفارقةٌ واضحةٌ أنّه في الوقت الذي تؤكّد فيه كل دول العالم (ما عدا أميركا وإسرائيل) على "حلّ الدولتَيْن"، وتنوي فرنسا وبريطانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومعهما عشرات الدول الأوروبية وكندا الشهر المقبل، فإنّ إسرائيل تعلن احتلالها الكامل لقطاع غزّة، ولا تُقدّم أي حلٍّ للقضية الفلسطينية أو تقترح مسارًا بديلًا غير استسلام "حماس" ونزع سلاحها. وهي لا تَعِدُ بشيء ولا تطرح بديلًا وترفض "حلّ الدولتَيْن"، بل وترفض أن يُدير الفلسطينيون قطاع غزّة عبر أي مؤسّسات تُمثّلهم، وهذا واقع مأساوي غير مسبوقٍ في تاريخ الحروب المعاصِرة وحتى حروب الشرق الأوسط الأخيرة.
بدأت منظومة الحُكم في إسرائيل إجراءات عملية لضمّ الضفّة الغربية والعمل على تهجير ما أمكن من الفلسطينيين
إنّ حروب المنطقة التي استهدفت تنظيماتٍ ودولًا كانت حليفةً لحركة "حماس" وداعمةً لها، حملت جميعها مساراتٍ بديلةً لِما كان سائدًا قبل الحرب، بصرف النظر عن قبولها أو رفضها، ونجاحها أو فشلها، أو تعديل جانبٍ منها أو الالتزام بها كلّها، إلّا غزّة التي أعلنت الحكومة الإسرائيلية نيّتها السيطرة الكاملة عليها وعدم تقديم أي بديل.
لقد تجاهلت حكومة نتنياهو كلّ القرارات الدولية لوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانيّة، بل منعت من الأساس أي نشاط إنسانيّ لوكالة "الأونروا"، واستبدلتها بوكالات أميركية - إسرائيلية شهدنا نتائجها الكارثيّة على الأرض. كما رفضت أي حلول سياسية بشأن التسوية الدائمة والشاملة مع الفلسطينيين (الدولة الفلسطينية والقرارات الدولية ذات الصلة)، واعتبرتها نوعًا من الإملاءات الدولية، ورفضت أيضًا أي اعتراف أحاديّ الجانب (من أي دولة أو منظمة إقليمية أو دولية) بالدولة الفلسطينية واعتبرت الموقف الفرنسي الأخير "هديةً لحماس".
المعركة مع دولة الاحتلال لن تكون بالضربة القاضية إنّما بالنقاط
لقد ظلّت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تتملّص من تنفيذ "حلّ الدولتَيْن"، ولم تُطبّق القرار 242 الصادر عن الأمم المتحدة والذي ينصّ على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، ويدعو لإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ في الضفّة الغربية وغزّة عاصمتها القدس الشرقية. وأصبحت هناك صعوبات عملية على أرض الواقع لتحقيق هذا الهدف بعد أن غزت المستوطنات الصهيونية أراضي الضفّة الغربية ومزّقت أوصالها.
لقد ذهبت حكومة نتنياهو بـ"الليكود" المتطرّف إلى مساحةٍ أكثر تطرّفًا، ولم تكتفِ برفض "حلّ الدولتَيْن"، بل إنّها مارست على مدار ما يقرب من عامَيْن جرائم الإبادة الجماعية وتجويع المدنيين. وتجاهلت توصيات "محكمة العدل الدولية" ولم تحترم قرارات "المحكمة الجنائية الدولية" ومؤسّسات الشرعية الدولية واعتبرتها مجرّد حبرٍ على ورق. وفي الوقت نفسِه، يتبارى نتنياهو مع بن غفير وسموتريتش في تبنّي مشروع "إسرائيل الكبرى" وبدأت منظومة الحُكم في إسرائيل إجراءاتٍ عمليةً لضمّ الضفّة الغربية والعمل على تهجير ما أمكن من الفلسطينيين.
في هذا السياق الذي حوّلت فيه دولة الاحتلال جرائم الإبادة الجماعية والتجويع إلى عادةٍ يوميةٍ، وبدأت في تهجير الفلسطينيين من شمال ووسط غزّة باتجاه الجنوب لتفعيل مخطّط التهجير، جاء التحرّك الفرنسي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأصبح السؤال هل ستفرق هذه الخطوة مع إسرائيل؟.
المطلوب تحويل مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى أداة للضغط والتنفيذ على أرض الواقع
يقينًا، خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قوى كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وغيرهما، ستُراكم أوراق الضغط على دولة الاحتلال لأنّ المعركة معها لن تكون بالضربة القاضية إنّما بالنقاط. ولكن في الوقت نفسه، يجب أن نعلم أنّ منظومة الحكم الحالية في إسرائيل والمدعومة من قاعدةٍ اجتماعيةٍ تُمثّل غالبية المجتمع، وصلت إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ من التطرّف وكراهية الآخر، وباتت تمتلك مُخططاتٍ لتدمير "حلّ الدولتَيْن" وتجويع الشعب الفلسطيني وتهجيره.
إنّ التناقض هائل بين تحرّكات المجتمع الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وبين ما تفعله إسرائيل في الواقع، ولكي يُزال هذا التناقض، المطلوب تحويل مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية من مجرّد مؤتمر أو قرار لإبراء الذمّة إلى أداةٍ للضغط والتنفيذ على أرض الواقع، وهو لن يتمّ إلّا بعد وقف الحرب ومحاسبة قادة إسرائيل على ما اقترفوه من جرائم ضدّ الإنسانية.
(خاص "عروبة 22")