لم تكن هذه المرة الأولى التي يُطرح فيها سؤال الكراهية، أسبابها ودواعيها. في خمسينيات القرن الماضي طرحه الرئيس الأمريكي "دوايت إيزنهاور"، الذي صعد لمنصبه متوّجًا بأكاليل النصر في الحرب العالمية الثانية قائدًا أعلى للحلفاء بأوروبا، على مجلس الأمن القومي.
لم تكن هناك مشكلة في التعرّف على أسباب الصدام والكراهية، لكنها المصالح والاستراتيجيات، التي اقتضت عدم الاعتراف بحقوق الدول المستقلة حديثًا في استقلال القرار الوطني ورفض سياسة الأحلاف العسكرية لملء فراغ الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.
"إننا نسيء إلى أنفسنا عندما اخترنا أن نعتقد أنهم يكرهوننا ويكرهون حرياتنا، الأمر عكس ذلك تمامًا.. إنهم يكرهون السياسة الأمريكية، التي تحرمهم من أية حرية يتطلعون إليها أيضًا".
كانت تلك رؤية عالم اللغويات الأمريكي اليساري اليهودي المعادي للصهيونية، نعوم تشومسكي، لتصاعد مشاعر الكراهية ضد الولايات المتحدة، التي وصلت ذروتها في الحرب على غزّة حيث تجري أبشع الجرائم ضد الإنسانية والإبادات الجماعية بغطاء كامل، استراتيجيًا وعسكريًا وسياسيًا، حتى تستكمل الدولة العبرية مهمّتها في التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
ارتبط تشومسكي بصداقة عميقة مع إدوارد سعيد.. كلاهما دعم قضية المقاومة بغض النظر عن أيديولوجيتها الدينية
بتوصيفه فإنّ إسرائيل "بقرة مقدّسة" تحظى دومًا بكل الدعم والحماية أيًا كانت الجرائم التي ترتكبها.
أرجع بعض أسباب ذلك الانحياز المطلق إلى تأثير ونفوذ الصهيونية المسيحية أكثر من الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة.
"الطائفة الإنجليكانية هي الأكثر صهيونية والأكثر عداء للسامية في الوقت نفسه"!
هذه مسألة تتداخل فيها المواريث التوراتية والمصالح السياسية.
"إنّ أقوى دعم لإسرائيل في الساحة الدولية يأتي من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وما يُسمّى بمنطقة النفوذ البريطاني والجمعيات الاستيطانية الاقتصادية على أساس إبادة أو طرد السكان الأصليين لصالح جنس أرقى".
هكذا بكل عنصرية مفرطة!
بعد "حرب 1967" زادت مستويات الارتباط بإسرائيل التي ألحقت هزيمة بـ"عبد الناصر" مصدر الخطر الحقيقي على المصالح والاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة.
"لولا المساعدات الأمريكية لما قتلت إسرائيل الفلسطينيين دون خشية حساب"، على ما قال عام 2005.
الاستخلاص نفسه يسري الآن مضاعفًا عشرات المرات في الحرب على غزّة.
كما يصح الآن استعادة توصيفه للأدوار الأوروبية بأنها منقادة صاغرة للسياسات الأمريكية، حيث هرعوا إلى تل أبيب لإبداء التضامن بذريعة حقها في الدفاع عن نفسها!
السياسات والانحيازات نفسها للبقرة الأمريكية المقدّسة.
لم ينشأ دعم "تشومسكي" المتواصل لعدالة القضية الفلسطينية في المحافل الدولية من فراغ أفكار وتصوّرات ومواقف.
بإرثه الذي صنع صيته كعالم ومفكّر وناشط سياسي ملهم ومؤثّر في أجيال عديدة ناهض قديمًا الحرب الفيتنامية وحاليًا الحرب في أوكرانيا.. "أمريكا مستعدة أن تحارب حتى آخر جندي أوكراني".
ارتبط بصداقة عميقة وممتدة مع المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد حتى رحيله عام 2003.
أحدهما يهودي والآخر مسيحي لكن كلاهما دعم قضية المقاومة بغض النظر عن أيديولوجيتها الدينية.
في ذكرى "سعيد" العاشرة ألقى "تشومسكي" محاضرة بالعاصمة البريطانية لندن، كأنها كُتبت اليوم تحت عنوان: "عن العنف والكرامة في الشرق الأوسط".
"تعود المأساة إلى عام 1948 عندما فرّ مئات آلاف الفلسطينيين من الإرهاب، أو طُردوا قسرًا إلى غزّة بيد القوات الإسرائيلية، التي تولّت نقلهم بشاحنات عبر الحدود".
"تكشف الدراسات الإسرائيلية الحديثة، ولا سيما العمل الذي وضعه رافي راز، أنّ الهدف طرد اللاجئين الفلسطينيين إلى سيناء، وإذا أمكن طرد بقية الفلسطينيين كلّهم أيضًا".
".. على حد قول جولدا مائير، التي تولّت رئاسة الوزراء في وقت لاحق، فقد كانت النية هي الاحتفاظ بقطاع غزّة مع طرد العرب الذين يعيشون فيه".
"كان التخلّص من عرب غزّة واحدًا من جملة الأهداف الأوسع نطاقًا خلال عملية طرد الفلسطينيين عام 1948".
بقوة الوثائق الإسرائيلية، التي لم نلتفت إليها بالجدية اللازمة والاستعداد الضروري، فإنّ مشروع التهجير القسري للفلسطينيين من غزّة إلى سيناء صاحب نشأة الدولة العبرية منذ لحظاتها الأولى.
"توقعت أول الحكومات الإسرائيلية أن يتم استيعاب اللاجئين في مكان آخر، أو أن يتم سحقهم، حتى الموت، بينما يتحوّل معظمهم إلى غبار بشري وحثالة مجتمع وينضمون إلى الطبقات الأكثر فقرًا في الدول العربية".
بعد أكثر من 75 عامًا، الأهداف بحذافيرها ما زالت ماثلة.
"وفق روية ديفيد بن جوريون فقد كان أمام عرب أرض إسرائيل، الذين تبقوا بعد طرد مواطنيهم مهمة واحدة فقط.. أن يهربوا".
لإعادة قراءة الوثائق الإسرائيلية حتى ندرك الخطر الفادح الذي يتهدّد القضية الفلسطينية والسيادة المصرية على سيناء
في تتبع "تشومسكي" لما يكتبه المؤرخون الإسرائيليون فإنّ: "خطأ بن جوريون الأكبر هو عدم تطهير البلاد كلّها، كامل أرض إسرائيل حتى نهر الأردن".
"حسب أرشيف سجلات مجلس الوزراء الإسرائيلي، التي رُفعت عنها السرية، فإنّ بن جوريون ربما يكون قد وافق أنّ ذلك كان خطأ جسيمًا".
ربما نحتاج الآن، أكثر من أي وقت مضى، لإعادة قراءة الوثائق الإسرائيلية بشأن خلفيات الصراع على غزّة حتى ندرك الخطر الفادح، الذي يتهدّد القضية الفلسطينية بالتصفية والسيادة المصرية على سيناء بالوقت نفسه.
"هناك طريقة واحدة فقط لإنهاء العنف هي معالجة الأسباب الجذرية لكل ما يحدث منذ خمسة وسبعين عامًا من الاحتلال والفصل العنصري".
كانت تلك صلب نظرته إلى القضية الفلسطينية، أكثر القضايا الإنسانية عدالة في العصر الحديث.
لم تكن مصادفة أن يُلهم "تشومسكي"، وهو في الخامسة والتسعين من عمره، جماعة "أصوات يهودية"، التي يُعد أبًا روحيًا لها، فعل التظاهر والاحتجاج ومحاولة اقتحام مبنى الكونجرس ليقولوا لرعاة "البقرة المقدّسة": "ليس باسمنا" الحرب على غزّة.
(خاص "عروبة 22")