اليوم نتوقّف عند دافعَيْن آخرَيْن نتصوّرهما أساسيَيْن:
الأول يتعلّق بالتجربة الاستعمارية المريرة، التي أسهمت في إعاقة النموّ الطبيعي للفكر السياسي العربي، وتجميد حركة سير مجتمعاته لنحو قرن، يمتدّ تقريبًا بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف العشرين، وهو القرن الذي شهد رسوخ الدولة القوميّة في المجتمعات الأوروبية، وتبلْورها في باقي أنحاء العالم، عبر تطوّرٍ ذاتي هادِئ حُرمت منه جلّ المجتمعات العربية، التي دخلت إلى حظيرة الاستعمار الأوروبي من بوّابة السيطرة العثمانية لأربعة قرونٍ كاملة. فلم تخرج من فلك الخضوع للأجنبي إلّا في النّصف الثاني من القرن الماضي ولديها المطالب المؤجّلة نفسها في التحديث والتطوّر، ومن ثم الأسئلة نفسها عن المسالك والدروب والوسائل والأهداف والغايات (مفردات عمل الفكر).
كرّست السيطرة العثمانية لدى أغلب مجتمعاتنا نوعًا من الإقطاع الرعوي شبه العسكري
وربّما زاد من وطأة هذا الدافع أنّ السيطرة العثمانية السابقة على الاستعمار الأوروبي، كانت تغوص عميقًا في قلب العصور الوسطى، ولذا كرّست لدى أغلب مجتمعاتنا نوعًا من الإقطاع الرعوي شبه العسكري، جرى للأسف استدعاؤه في لحظة التحرّر من الاستعمار باعتباره أقرب الخبرات في الذاكرة الحضاريّة، وربما أسهلها، كأساسٍ للعقد الاجتماعي الجائر، الذي جعل السلطة السياسية أسيرةً دائمةً لمعادلةٍ بائسة، أحد طرفيْها الأمن، والآخر هو الاستبداد، حيث التسلّط من دون حساب، والتحكّم من دون مساءلة.
وإزاء الادّعاءات التحديثيّة للنّخب العسكرية العربية، خصوصًا في الدول التي وُصفت بالثوريّة، من دون إيمانٍ عميقٍ بالمُثل السياسية للحداثة، جرى تبنّي الصيغة الثقافية التوفيقية، وهي صيغة مقبولة مبدئيًا، لكنّها افتقدت عمليًا إلى الفعالية والانسجام اللازمَيْن لإنجاحها، فآلت تدريجيًا، تحت ضغط الزّمن، إلى نوعٍ من التلفيق بين الوسائل والغايات، فكانت النتيجة هي اضطراب الواقع، وتكريس تناقضاته. ومن ثم كان طبيعيًّا أن يبقى الفكر في معيّته، قابعًا بجواره يجترّ نفسه، ويُعيد طرح قضاياه من جديد على أمل الخروج من المأزق الكبير، المحيط به والمُمسك بتلابيبه، على شتّى الأصعدة.
يُفضي ذبول العقلانية النّاجم عن غياب العلم الحديث إلى تغييب النّزعة الفرديّة المُؤسِسة للحرّية الإنسانية
أمّا الثاني فيتمثّل في الارتباط شبه البنيوي بين تلك القضايا جميعها، على نحوٍ يجعل كلّ منها جذرًا لتاليتها، وثمرةً لسابقتها، وكأنّها شجرة خضراء تتغذّى من العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين أجزائها، ما يعنى أنّ إعاقة التطوّر في واحدةٍ من تلك القضايا لا بدّ أن تُفضي إلى إعاقاتٍ في القضايا الأخرى. فمثلًا، يُفضي ذبول العقلانية، النّاجم عن غياب العلم الحديث ومنهجه الشكّي / التجريبي أمام ضغط مناهج المعرفة التقليدية، سواء الصورية / المنطقية / الأرسطية، أو الحدسية / الإشراقية / الصّوفية، إلى تغييب النّزعة الفرديّة، المُؤسِسة للحرّية الإنسانية أمام الروح الإدماجية المُهيْمنة على الأبنية الاجتماعية التقليدية حيث تتعاضَد القبلية البدائية، والطائفية المُتعصّبة في خدمة التسلّطية القاهرة، لتترسّخ الشموليّة السياسية.
وفي سياقٍ كهذا، لا يُتصوّر أن تُوجد الديموقراطية الليبيرالية في صيغتها التمثيليّة، لأنّ ممارستها السياسيّة تتطلّب فضاءً ثقافيًا مُتسامِحًا يفترض وجود العِلمانية، حيث يتعايش الأفراد متساوين كمواطنين في دولةٍ مدنيةٍ، ويتمايزون فقط على قاعدة الانتماءات الحديثة: الطبقيّة والمهنيّة والاقتصاديّة، وليس على قاعدة الانتماءات التقليدية: العِرقية، والمذهبية، والدّينية.
كلّما ازدهرت أمّة/حضارة نضجت تصوّراتها للعالم من حولها والعكس صحيح
أمّا قضية "العلاقة مع الآخر"، فلا تعدو أن تكون ثمرةً نهائيةً لتلك المتوالية / الشجرة، حيث يكون الآخر الحضاري شريكًا مثاليًا، نزيهًا، وموضوعيًا حينما تزدهر الذّات، وتنمو قدرتها على الفعل والتأثير في حركة التاريخ، عبر النجاح في إنجاز وترسيخ منظومة المفاهيم السابقة: العقلانية والديموقراطية والفردانيّة وغيرها. فمع ثقة الذّات بنفسها، وازدياد وعيها بدورها، لا تجد لديها حاجةً أو رغبةً في تشويه صورة الآخر لتبرّر ذبولها التاريخي، أو لتعفيَ نفسها من وطأة الشّعور بالتقصير. ولعلّ درس التاريخ يُلهمنا ذلك الفهم: كلّما ازدهرت أمّة / حضارة نضجت تصوّراتها للعالم من حولها، والعكس صحيح، فكلّما تدهورت أمّة / حضارة، وتراجعت فرصها في الفعل والتأثير، بات إدراكها للعالم أقلّ موضوعيةً، وللآخر أكثر تشوّهًا. لأنّها إذ تعاني من الضعف، لا بدّ أن يجري إقصاؤها. وفي ظلّ إقصائها، يصعب أن تحتفظ للآخر الذي أقصاها بطبيعته الإنسانية، إذ يستحيل لديها عدوًّا أبديًا، وشيطانًا متآمرًا.
يُفضي ارتفاع درجة التفاعليّة بين تلك القضايا إلى ربطها، برباطٍ واحدٍ، يستدعي كلّ منها الأخرى غيابًا وحضورًا، نجاحًا وإخفاقًا. وهو الأمر الذي يبرّر إعادة طرحها، كحزمةٍ شاملةٍ، على الوعي العربي، الذي يبدو والحال هذه، أسيرًا لنوعٍ من الرّكود وربّما الجمود القاتل.
(خاص "عروبة 22")