من بين المفاهيم التي لا زالت مشوّشة في مخيال الرأي العام العربي، بما في ذلك مخيال الباحثين في العديد من الحقول العلمية، مفهوم الحداثة، والذي على غرار مفاهيم موازية، يعاني من كثرة التعريفات التي تساهم أو تكرّس ذلك التشويش، لولا إنّ النموذج أعلاه الخاص بتقنية "الفار"، يندرج ضمن بعض التطبيقات العملية لتبسيط هذا المفهوم.
إذا كان المقصود بالحداثة، تفعيل الرؤية العلمية للعالم، وهذه من أهمّ خلاصات الباحث محسن المحمدي كما جاءت في كتابه (صدر منذ سنة تقريبًا) تحت عنوان "الحداثة ومركزية الرؤية العلمية"، فإنّ هذا العلم هو الذي نلجأ إليه في معرض الحسم مع العديد من القرارات في مباريات كرة القدم، والتي تثير الشك حول صحّة هدف أو التدقيق في رياضية تصرّف أحد اللاعبين أو لأهداف أخرى، أي إنّ تبسيط المفهوم هنا، جاء من خلال تقنية عملية، لا يمكن الاعتراض عليها، باستثناء فئة من عشّاق كرة القدم لها حنين لحقبة الرياضة نفسها قبل اللجوء إلى هذه التقنية، أي الحقبة التي كانت تتميّز بوجود هامش من الخطأ لدى الحكام، ولكن إجمالًا، هناك ما يُشبه الإجماع على أهمية هذه التقنية، وهذا هو بيت القصيد في تسليط الضوء على مكاسب العقل العلمي الحداثي.
من بين الإشكاليات التي تواجه الهمّ المعرفي في المنطقة العربية، هناك معضلة حقيقية عنوانها تبسيط مفاهيم العلم
صحيح أنّ الأمر يهمّ نموذجًا واحدًا من تطبيقات الحداثة، في شقّها الإيجابي على الأقل، مع وجود نماذج أخرى في شقّها السلبي، اشتغلت عليها على الخصوص أدبيات "مدرسة فرانكفورت" الألمانية، أو "المدرسة النقدية"، وهي الأدبيات نفسها التي تنهل منها العديد من أسماء الساحة الفكرية العربية المعاصرة، وخاصة الأسماء التي تنهل من "الصحوة الإسلامية" للحديث أو المطالبة بما تصطلح عليه "أسلمة الحداثة".
لكن صحيح أيضًا، أنّه من بين الإشكاليات التي تواجه أقلام النهضة والتنوير وترويج الهمّ المعرفي في المنطقة العربية، هناك معضلة حقيقية عنوانها تبسيط مفاهيم العلم ومن ذلك تبسيط مفاهيم فلسفية، ولهذا نعاين ظاهرة "تبسيط العلوم" في العديد من الدول الغربية، وأصبحنا نعاينها في المنطقة العربية أيضًا، ولو بشكل محتشم، بل إنّ بعض البرامج التي تندرج أو تصنّف في خانة "صناعة المحتوى"، يصبّ بعض حلقاتها في هذا الاتجاه، كما هو الحال مع بعض حلقات برنامج "الدحيّح"، المخصّصة للنظريات العلمية أو لبعض الأفلام العلمية.
من المفارقات العربية/الأوروبية في هذه الظاهرة، أنّ أحد أشهر الأسماء الأوروبية في هذا السياق، هو فرنسي من أصل مغاربي، والحديث عن الباحث إدريس أبركان، الذي اقترب عدد المحاضرات التي ألقاها في ربوع العالم بأسره، من رقم 600 محاضرة، باللغات الثلاث: الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، إضافة إلى أنّ أعماله الثلاثة، والتي تدور حول علم الدماغ واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، حظيت بأرقام محترمة من حيث المبيعات، بل إنّ كتابه الأوّل على سبيل المثال، تُرجِم إلى تسع لغات، منها اليابانية والروسية والكورية والصينية، لكنّه لم يُترجم بعدُ إلى العربية!
لنتخيّل تأثير إطلاق مشاريع مؤسّساتية تروم تبسيط العلوم للعامة على مؤشّرات "اقتصاد المعرفة" في المنطقة
قد يكون سبب ذلك مردّه خوضه في مواضيع علمية دقيقة، تُعتبر من قضايا الساحة هناك، ولو كان يخوض في الإسلاميات (الفقه الإسلامي، المؤسّسات الدينية، التصوّف، الحركات الإسلامية، الأعلام التراثية.. إلخ)، لعاينا ترجمة بعض أعماله كما هو الحال مع ترجمة أعمال العديد من الأسماء البحثية هناك في الساحة الأوروبية والأمريكية، بما فيها أعمال بعض المستشرقين، وهذه مفارقة حافلة بالإشارات.
لنتخيّل لوهلة، كيف سيكون المشهد لدى مخيال شعوب المنطقة، لو أنّ أغلب أنظمة المنطقة انخرطت في إطلاق مشاريع مؤسّساتية تروم تبسيط العلوم للعامة، وتأثير ذلك على مؤشّرات "اقتصاد المعرفة" و"مجتمعات المعرفة".
ثمّة مبادرات عربية في هذا السياق، خاصّة في بعض دول الخليج العربي، لكنّ المأمول أكبر بكثير ممّا هو سائد، وهذا حلم من أحلام شعوب المنطقة، تتمنّى أن يتحقّق يومًا.
(خاص "عروبة 22")