الفساد وسبل الإصلاح

مواطنون وناهبون

يتعرّض مواطنو العالم إلى ما يمكن أن نطلق عليه: "عسف تاريخيّ"، غير مسبوقٍ، من قبل "الأوصياء الجدد"، أو "الناهبون المعاصرون" (Takers)؛ حسب التعبير الذي طرحه التقرير السنوي لمؤسسة "أوكسفام التنموية الدولية"، الصادر مطلع عام 2025، لوصف الطبقة الحاكمة للعالم، العابرة للحدود عبر العولمة، وامتداداتها المحلية في كلّ دول العالم، فهؤلاء الأوصياء الجدد / الناهبون لم تعُد لهم مهمّة / هَمّ إلّا إعاقة المواطَنة، بدرجةٍ أو بأخرى، وتقويض عناصرها المستحقّة / المُكتسبة للمواطنين: الحقوق بأبعادها، والعدالة، والمساواة، في دول الشقاء ودول الهناء على السواء.

مواطنون وناهبون

استطاع الأوصياء الجدد، على مدى ما يقرب من نصف قرن، تحت مظلّة الليبيرالية الجديدة - على الرَّغم من الأزمات الاقتصادية / الماليّة الكارثيّة المُتعاقبة التي تسبّبت فيها - أن تُحْكِمَ هيمنتها على، أولًا: الكوكب بغرض احتكار وانتهاك وإنهاك ثرواته وموارده ومقدّراته؛ وثانيًا: المواطنين بهدف تقويض حصاد نضالاتهم التاريخيّة - عبر جولاتٍ مجتمعيّةٍ متعاقبةٍ منذ القرن الثامن عشر - من أجل نَيْلِ حقوق المواطَنة بأبعادها: المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية؛ اكتسابًا بالتوافق، أو انتزاعًا بالنّضال.

ما يناهز ثُلْثَي سكان العالم يعانون من رباعيّة الجوع والمعيشة المُتدنّية والتهميش المجتمعيّ والتمييز

لقد مارس هؤلاء الأوصياء الجدد - الناهبون؛ عمليةً تاريخيةً مُمنهجةً ومركّبةً "للاستحواذ" على الثروات بأشكالها المختلفة. وحول العملية "الاستحواذية" التاريخيّة للثروات التي قام بها هؤلاء الناهبون؛ ترصد الدراسات التي عنيت بأحوال العباد / المواطنين في العالم أنّ أغنى 1% من البشر قد نجحوا في الاستحواذ، منذ سنة 2020، على ما يقرب من ثلثَي إجماليّ الثروات الجديدة المُراكَمة - أي حوالى ضعف الأموال التي يمتلكها أفقر 99% من سكان العالم. ولم يكن للناهبين المعاصِرين أن يعظّموا من ثرواتهم إلى هذا الحدّ السافر ما لم تكن لهم اليد العليا أو "الوصايا" والهيمنة - بدرجةٍ أو بأخرى، بطريقةٍ أو بأخرى - على البنى المجتمعيّة المختلفة التي من شأنها التخديم على العملية "الاستحواذية" التاريخيّة للثروة، عبر النّخب التابعة المنتشرة في أنحاء الكوكب، الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تحرص عن طريق التشريعات والسياسات على ضمان، إن جاز التعبير، "الاستدامة الاستحواذية".

القلّة الثرويّة وظّفت الديموقراطية لاستصدار تشريعات وقوانين تتمحور حول تأمين المزيد من الاستحواذ على الثروة

في هذا المقام، نُشير إلى أنّ نتاج العملية "الاستحواذية" للثروة قد جعل ما يناهز ثُلْثَي سكان العالم (5 مليارات مواطن) يُصنّفون بأنّهم فقراء؛ ويعانون من رباعيّة: الجوع، والمعيشة المُتدنّية، والتهميش المجتمعيّ، والتمييز. وبطبيعة الحال، أدّى هذا الإفقار إلى انصراف المواطن عن الانخراط في العملية الديموقراطية لعدم قناعته بقدرة الديموقراطية التمثيليّة على تحقيق تطلّعاته. ما مَكَّنَ القلّة الثرويّة من توظيف الديموقراطية لاستصدار تشريعات وقوانين تحقّق مصالح "الأوصياء الجدد - الناهبون المعاصِرون"؛ تتمحور حول هدفٍ وحيدٍ هو تأمين المزيد من الاستحواذ على الثروة.

كما أقصى هذا الوضع قاعدةً مواطنيةً عريضةً من استمرارية التمتّع / الاستفادة من حقوقها المواطنيّة التي اكتسبتها / انتزعتها عبر التاريخ، منذ القرن السابع عشر، من جهة، كذلك الحيلولة دون الفوز باستحقاقاتها التي لا تزال، بعدُ، تُناضل من أجلها من جهةٍ أخرى. وهي وضعية يعتبرها البعض انتكاسةً تاريخيةً للمواطنة والمواطنين.

لم تتوقّف "العملية الاستحواذية"، فقط، على، أولًا: تعظيم الثروات للقلّة الثروية وإحداث فجوةٍ عميقةٍ جدًا بين من يملك: القلّة الثروية، وبين من لا يملك: الكثرة المواطنية؛ فيما يمكن وصفه باللّامساواة التاريخية. وثانيًا: تعطيل التمتّع بحقوق المواطَنة المكتسبة والمنتزعة عبر النضال التاريخي المواطنيّ. وثالثًا: إعاقة السعي من أجل الفوز بحقوقٍ جديدة، إذ عملت على إفشال الجهود التي تتعلّق بأهداف التنمية المستدامة. تلك الأهداف في مُجملها ذات طبيعةٍ إصلاحيةٍ لا تهدّد جوهر "العملية الاستحواذية" ومن ثم صميم مصالح "الأوصياء الجدد - الناهبين".

ونُحيل هنا إلى تقرير الأمم المتحدة حول جهود العالم في تحقيق أهداف التنمية المُستدامة، الصادر قبل سنة، والذي ورد في مقدّمته بقلم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنّ: "17%، فقط، من الأهداف - 17 هدفًا رئيسيًا وما يقرب من 200 هدف فرعي - تسير على المسار الصحيح، وإنّ التقدم في أكثر من ثلث هذه الأهداف (35% منها) إمّا توقّف أو تراجع. ويتراوح التقدّم في تحقيق باقي أهداف التنمية المستدامة (حوالى 50% من الأهداف) ما بين التقدّم المعتدل والتقدّم الهامشي". ودفع هذا الإخفاق الكبير في تحقيق إنجازاتٍ ملموسةٍ لأكثر من 60% من أهداف التنمية المستدامة. وفي الأخير، أدان غوتيريش دول المركز الشمالية (ومن خلفها الشركات الضخمة والكارتيلات الكبرى الأخطبوطيّة) لعدم التزامها "بالوعود التي قطعتها... إذ إنّ ما تحقّق هزيل...". وخلص الأمين العام إلى أنّ "استمرارية الإخفاق ستوقع أكثر من مليار مواطن في براثن الفقر المدقع بحلول سنة 2030". وهي السنة التي كان من المفترض أن تحقّق فيها التنمية المستدامة أهدافها.

التخلّف عن ركب المواطنة الشاملة سيفاقم الصراع ويجعله مفتوحًا بين المواطنين والنّاهبين

وبعد، إنّ فجوة اللّامساواة التي تزدادُ عمقًا بين القلّة الثرويّة والكثرة المواطنية، سواء في داخل كل دولة من دول الشمال المركزي الغني أو فيما بين دوله، أو بين دول الشمال المركزي الغني إجمالًا، وبين دول الجنوب العالمي - الشرقي والعالمثالثي - بتجلّياته التنموية المتفاوتة، أو بين دول الجنوب العالمي من ناحيةٍ، وتَعثُّر المواطنة من ناحيةٍ أخرى، سوف يؤدّيان يقينًا إلى أن "تتخلّف الكثرة المواطنية عن الركب"، ركب المواطنة الشاملة، في دول الشقاء والهناء على السواء. ما سيفاقم الصراع ويجعله مفتوحًا بين المواطنين والنّاهبين!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن