لم تعُد الحرب تُخاض بالجيوش التقليديّة، بل أصبحت مجالًا مُعقّدًا تتداخل فيه تقنيات الذّكاء الاصطناعي، والطّائرات المُسيّرة، والأسلحة السيبرانية، وأنظمة الاستشعار المتقدّمة. بذلك، طرحت هذه الحرب نموذجًا صريحًا للحروب التكنولوجية الحديثة، إذ يشكّل التفوّق العلميّ والتّقني عنصرًا حاسمًا في موازين الصّراع. ولا يُخضع هذا التفوّق مُبتكرات التّكنولوجيا، كما في السّابق، إلى المُدد الطّويلة، بل أصبح أيّ إنتاج تكنولوجي يبرز اليوم مُتجاوَزًا غدًا. أي أصبحت التكنولوجيا ذلك التناسل العجائبيّ الذي يجدّد قوّة المنتج ولا يجبره على الهرم والأفول. بمعنى أصبحت مكوّنات القوّة دينامية، تستدعي عقلًا جبّارًا يتجاوز إكراه الزّمن ومعنى المستحيل بكلّ أشكاله.
كثير من الأنظمة عطّلت آليات الإنتاج العلمي وقمعت التفكير النّقدي وجرّدت العروبة من بُعدها الإبداعي
يضع هذا التّحوّل في طبيعة القوّة سؤال العروبة في موضعٍ مختلفٍ تمامًا عن الصّيغ الإيديولوجية التي سادت في القرن العشرين. لقد قامت العروبة التقليديّة على تصوّرٍ ثقافويّ للهويّة، اختزل الوجود العربي في اللغة والتّراث والانتماء العرقي أو التّاريخي. وغالبًا ما اتّسمت بصيغٍ خطابيةٍ منفعلةٍ وغير عقلانيّة.
لم يكن المشروع القومي العربي علميًّا بقدر ما كان تصوّرًا وجدانيًا يسعى لتوحيد المجتمعات العربيّة على أساس الانتماء المشترك، من دون تأسيسٍ حقيقيّ لاقتصاد المعرفة والسيادة العلميّة. بل إنّ كثيرًا من الأنظمة التّي بَنَت هذا الخطاب وظّفته لتكريس أنماطٍ سلطويّةٍ عطّلت آليات الإنتاج العلمي، وقمعت التفكير النّقدي، وجرّدت العروبة من بُعدها الإبداعي، لتجعل منها أداةً إيديولوجيةً لا مشروعًا حضاريًا قابلًا للتطوّر.
العقلانيّة هي ممارسة مؤسسيّة تؤسّس للسيادة المعرفيّة وتُحرّر الفضاء العربي من التّبعية التكنولوجيّة
إنّ إعادة بناء العروبة في ضوء التّحوّلات الرّاهنة يقتضي انتقالًا من منطق الهويّة المُغلقة إلى منطق العقلانيّة التّكنولوجيّة. وهذا التحوّل لا يعني التّخلّي عن الانتماء الثّقافي، بل إعادة تأطيره ضمن مشروعٍ تنمويّ معرفيّ تكون فيه العروبة حاملةً لرؤيةٍ مدنيّةٍ، لا مجرّد مرجعيّة عاطفيّة. فالعقلانيّة، في هذا النّطاق، ليست دعوةً للتّفكير العلمي فقط، وإنّما هي ممارسة مؤسسيّة تؤسّس للسيادة المعرفيّة، وتُحرّر الفضاء العربي من التّبعية التّكنولوجيّة التّي تُعيد إنتاج الهشاشة الاستراتيجيّة.
إذا أُعيد بناء العروبة عقلانيًّا، يمكن أن تتحوّل إلى إطارٍ حضاريّ مَرِن، يؤسّس لمجتمعٍ عربيّ علميّ متكامل، تكون فيه اللغة العربيّة أداة نقلٍ وتوليدٍ للمعرفة، لا مجرّد وعاءٍ للتراث. وتقتضي هذه الصّيغة إعادة هيكلة المنظومات التعليميّة والبحثيّة، وتوجيه الاستثمار السياسي والاقتصادي نحو الابتكار وتطوير الكفاءات التقنيّة وتبنّي مقارباتٍ جديدةٍ في الحُكم والإدارة أساسها الكفاءة لا الولاء الهوياتيّ. بهذا المعنى، العروبة العقلانيّة التّكنولوجية، ليست بديلًا عن الهويّة، بل هي تجديد لوظيفتها التّاريخيّة وفق مقتضيات تحدّيات العصر الجديدة. إنّها عروبة لا تستمدّ شرعيتها من الماضي فقط، بل من قدرتها على إنتاج مستقبلٍ مختلفٍ وتنافسيّ، يكون فيه العرب فاعلين في صناعة المعرفة، لا مجرّد متلقّين ومستهلكين.
من دون إنتاج التكنولوجيا يتعذّر الحديث عن عروبة جديدة لها موقع مُشرّف في المستقبل
إن هذه الرّؤية تستدعي إرادةً سياسيةً ومجتمعيّةً تقوم على تعاقداتٍ واضحةٍ ومُلزِمةٍ بين الدّولة والمجتمع والنّخب الفكريّة، مُجرّدةً من أي حساباتٍ ضيّقةٍ أو اعتبارات تُبرّر التحكّم أو الإخلال بشرط التعاقد.
إنّ معنى العروبة "العقلانيّة" لا يتناقض مع الهويّة، وإنّما يُعيد تأهيلها لتكون منفتحةً ومُنتِجةً وقادرةً على المنافسة العالميّة. إنّها تحدٍّ حضاريّ ومعرفيّ أمام التّكنولوجيا التّي أصبحت مُحدّدًا للسيادة والوجود. فمن دون إنتاج التّكنولوجيا، يتعذّر الحديث عن عروبةٍ جديدةٍ لها موقع مُشرّف في المستقبل القريب والبعيد.
(خاص "عروبة 22")