احتوى البيان الأخير للقمّة عبارات توافقية وقابلة للتأويلات المتعددة، ومنها الاتفاق على انتقال متدرّج مدروس للتخلي عن الطاقات الأحفورية بما يعكس الأهداف المتباينة للأطراف المشاركة لدول "أوبك" المنتجة للطاقة الأحفورية ولمصالح الدول المستهلكة لها، من قبيل الصين والهند وحاجات أفريقيا الفقيرة لها مع الأجندات الأمريكية والأوربية القريبة من الأجندات المناخية العدوانية تجاهها.
يحاول بعض الأطراف في كل قمّة فرض أجندات مناخية عدوانية كالتوصل السريع إلى خفض الانبعاث الكربوني نهائيًا بوقف إنتاج الوقود الاحفوري في أقرب وقت، وفي كل مرّة يحددون تاريخًا لذلك. ويتهم الناشطون المناخيون، الذين سُمح لهم بالتظاهر في قمّة دبي، مصالح الشركات الطاقوية الأحفورية (فحم، غاز ونفط) بأنّها هي من تقف وراء عرقلة تنفيذ اتفاقيات الأطراف حول المناخ التي تهدف للخفض الكربوني خدمةً لمصالحها التجارية.
العمل المناخي الواقعي ينبغي أن يقوم على نظرة متوازنة بين منافع الوقود الأحفوري وانعكاساته المناخية
معلوم أنّ الأجندة المناخية العدوانية لهذه الأطراف التي تدعو إلى التخلّص السريع من استخدام الوقود الأحفوري تقوم أساسًا على نموذج نظري يُعلي من شأن الأضرار المناخية لاستخدام الوقود الأحفوري (فحم، غاز ونفط)، كما يُهمل منافع الوقود الاحفوري على التنمية ولا يوازن بين منافع الوقود نفسه وتأثيراته على المناخ. ولكن العمل المناخي الواقعي وليس المثالي ينبغي أن يقوم على نظرة متوازنة بين منافع الوقود الأحفوري وانعكاساته المناخية وليس التحيّز إلى أجندة تُعلي فقط من التأثيرات السلبية.
نروم في هذا المقال أن نشرح صوت أجندة مناخية عربية معتدلة تقوم على العلم والحكمة بالاعتماد على الحُجج التي قدّمها الباحث الأمريكي ألكيس إبشتين (Alex Epstein) وهو خبير مستقل مؤلف كتاب "المستقبل الأحفوري: لماذا يتطلّب ازدهار الإنسان العالمي المزيد من النفط والفحم والغاز الطبيعي، وليس أقلّ"، (صدر بالإنجليزية في 2022، ولم يُترجم بعد إلى العربية)، والذي دعا في مقاله الأخير، المؤرّخ في 14 كانون الأول/ديسمبر الجاري، إلى أن تكون قمّة "كوب 28" هي آخر قمّة مناخ لعدة اعتبارات أخلاقية تقوم على منظور اقتصادي وتنموي.
لعلّ أهمّ حجّة يمكن أن نستخدمها ضد الأجندة العدوانية لوقف استخدام الوقود الأحفوري هي أنها أجندة غير أخلاقية، حيث إنها تؤدي إلى حرمان بلايين البشر في العالم من الطاقات الأحفورية منخفضة التكلفة التي يحتاجونها للتدفئة والسقي والشرب والنظافة والتبريد وبناء المنشآت وغيرها من الخدمات التي تعتمد على الطاقة الرخيصة، وواضح أنّ هذا الحرمان يتسبّب في استمرار الفقر والمعاناة وهو بالطبع أمر غير أخلاقي. إنّ الأجندة العدوانية تضرّ بمصالح الفقراء أساسًا الذين تدعي أنّها تحميهم، ويا لها من مفارقة.
يكرّر الناشطون المناخيون، أصحاب الأجندة المناخية العدوانية، التأكيد على التأثيرات المناخية السلبية على المناخ لكنهم يهملون أمرًا مهمًا، مفادها أنّ الوقود الأحفوري نفسه يمدّنا بالقدرة على التغلّب على التغيّر المناخي، لأنّ استخدام الفحم والغاز للتدفئة والسقي ساعدنا على الحدّ من تأثير المناخ.
الوقود الأحفوري ساعدنا على التقليل من الوفيات الناجمة عن الجفاف
ثم إنّ الجفاف الذي يسبّبه التغيّر المناخي يتمّ التغلب عليه عن طريق استخدام الوقود الأحفوري في عملية الري ونقل المحاصيل الزراعية، كما أنّ الوقود نفسه ساعدنا على التقليل من الوفيات الناجمة عن الجفاف، حيث انخفضت نسب الوفيات من 2500 شخص في المليون إلى الصفر في المليون، بين سنة 1920 وسنة 2000، وهي فترة ازدادت فيها الانبعاثات الكربونية من 300 مليون إلى 400 مليون.
أما تزايد الانبعاثات الكربونية منذ 100 سنة في العالم مع ارتفاع الحرارة بدرجة مئوية في الواقع، فلم يؤدِ إلى زيادة الوفيات الناتجة عن ارتفاع الحرارة، بل على عكس ذلك، أدّى إلى خفض الوفيات الناتجة عن البرد الشديد، بما في ذلك الهند، وعليه، فإنّ ارتفاع درجات الحرارة على المدى المتوسط يسهم في خفض الوفيات الناتجة عن انخفاض درجة الحرارة (تراجعت الوفيات بسبب البرد إلى 2.5 بالمئة وتراجعت الوفيات بسبب الحرّ بنسبة 0,21 بالمئة).
يضيف المتشدّدون في الدفاع عن البيئة، أنّ الوقود الأحفوري يُسهم في رفع الوفيات بسبب الكوارث المناخية، إلّا أنّ الأرقام تدلّ عمومًا على العكس من ذلك، من قبيل الانخفاض في نسب الوفيات الناتجة عن الكوارث المناخية بنسبة 98 بالمئة بين سنة 1920 وسنة 2000، ويعود الفضل هنا إلى استخدام الوقود الأحفوري من أجل التدفئة والتبريد والإنشاءات القاعدية ونقل المحاصيل الزراعية. كما تدلّ الأرقام على تراجع عدد ضحايا الأعاصير بين سنة 1960 وسنة 2000 في البلدان الغنية بفضل استخدام الوقود الأحفوري.
يُهمل النشطاء المناخيون الأخبار الجيدة ويركزون فقط على القصص المناخية السيئة، حيث لا يحدّدون المناطق الجغرافية التي تشهد ارتفاعًا في درجة حرارة الأرض، فالبيانات المتوفرة بين 2000 و2009 تبيّن أنّ المناطق الباردة الشمالية هي التي سترتفع فيها درجة الحرارة أكثر من غيرها وفي الوقت البارد (وقت الليل)، ويتمّ ذلك في الفصل البارد (فصل الشتاء) وهي أخبار جيّدة لا يتم تداولها لأنها تشوّش على أجندات النشطاء المناخيين الكوارثية.
على صعيد آخر، تؤدي الأجندة المناخية العدوانية إلى تبنّي سياسات عدوانية تجاه الوقود الأحفوري، استثمارًا وإنتاجًا ونقلًا، حيث أدّت إلى انخفاض المعروض الطاقوي الأحفوري وارتفاع أسعار الطاقة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفي البلدان الفقيرة.
وبسب التقليل من شأن أهمية الوقود الأحفوري عند دعاة التطرّف الإيديولوجي المناخي، ينبغي التذكير الآن بأنّ للوقود الأحفوري منافع تنموية على البلدان الذي تستخدمه، مثل الصين والهند منذ 1980، حيث ازدادت نسب استخدامهما للطاقة بين 600 و700 بالمئة، وارتفع المستوى المعيشي للسكان وازداد عمر الانسان بـ14 و17 سنة، كما تعتمد البلدان الغنية على نِسب كبيرة من الطاقة الأحفورية في نموها الاقتصادي، مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة بنسب تتراوح بين 83 و99 بالمئة.
الضلال المناخي الجديد يقوم على أيديولوجية متطرفة تؤدي إلى الإضرار بالإنسان عِوَض أن تخدمه تحت عنوان حماية المناخ
ما زال العالم يحتاج إلى الطاقة الأحفورية ولا زالت الطاقات غير الأحفورية مكلّفة، وهي تغطي حوالى 3 بالمئة وحسب من حاجة العالم للطاقة، وما زالت تحصل على دعم حكومي مكلّف ومتزايد لشركات خاصة من أجل إنتاجها من خلال فرض ضرائب جديدة على المواطنين.
ظهر من خلال البيان الختامي لقمة "كوب 28" تأثير الحكمة والاعتدال العربي في صدور أجندة معتدلة تدعو إلى التخلّي التدريجي والمدروس والمتوازن عن استخدام الوقود الأحفوري من خلال انتقال طاقوي مدروس علميًا، مع التركيز على التنمية التي هدفها ازدهار البشر وليس الوصول إلى صفر درجة مئوية في 2050، والعودة إلى عصر ما قبل الصناعة، عصر ما قبل اكتشاف الفحم، ولهذا يدعو صاحب هذا المقال إلى أن تكون القمّة نفسها "آخر كوب" في التاريخ، وأن يدشّن العرب بذلك عصرًا جديدًا تتخلّى فيه البشرية المتقدّمة عن ضلالها المناخي الجديد الذي يقوم على أيديولوجية متطرفة، تؤدّي إلى الإضرار بالإنسان عِوَض أن تخدمه تحت عنوان حماية المناخ.
(خاص "عروبة 22")