هي غاية "مزدوجة الأهداف" تسعى تل أبيب إلى تحقيقها، خلال عدوانها الحالي على غزّة، أوّلًا: إنهاء القضية الفلسطينية عبر تهجير الناس بدايةً إلى جنوب القطاع ومن ثمّ إلى خارج الحدود أو قتلهم وإنهاء وجودهم المادي على الأرض، وثانًيا: سرقة ثروات الفلسطينيين التي لم تتمكن بعد من السطو عليها، وهنا نتحدث تحديدًا عن حقول الغاز الطبيعي.
إذ لطالما شكّل الغاز الطبيعي موردًا مهمًا لإسرائيل، كونه يغطي حوالى 70% من إنتاج الكهرباء واحتياجات الطاقة في البلاد، كما يتوقع أن يُدخِل استثمار حقول الغاز وتصديره مليارات الدولارات الإضافية إلى الخزينة الإسرائيلية، خصوصًا مع ازدياد الحاجة لكميات إضافية من هذا المورد الطبيعي مؤخرًا، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا بغية تلبية احتياجات أوروبا المتزايدة لمصادر الطاقة.
وبالعودة إلى الغاز المكتشف قبالة شواطئ قطاع غزّة، فقد بدأت القصة قبل نحو 23 عامًا، وتحديدًا عام 2000 حين أعلنت الشركة البريطانية "بريتيش غاز" عثورها على حقل غني بالغاز الطبيعي أطلق عليه إسم "غزّة مارين"، يقع على عمق 603 أمتار تحت سطح البحر ويبعد 22 ميلًا غربيّ غزّة. وكانت السلطة الفلسطينية قد منحت الشركة إذنًا بالتنقيب عن الغاز في عام 1999.
ووفق المعلومات المتداولة، فإنّ "غزّة مارين" هو أول حقل اكتُشف في مياه شرق المتوسط في نهاية تسعينات القرن الماضي، قبل حقول الغاز التي استولت عليها إسرائيل وهي في الأصل فلسطينية، وشكّل هذا الحقل دافعًا لدول حوض البحر المتوسط الشرقية لتكثيف عمليات التنقيب.
ويُقدّر احتياطي الغاز في الحقل بحوالى 1.1 تريليون قدم مكعب، أيّ حوالى 32 مليار متر مكعب، وهذا ما يعادل طاقة إنتاجية تبلغ 1.5 مليار متر مكعب سنويًا لمدة 20 سنة.
آنذاك، علّق الفلسطينيون، لا سيّما الغزّاويون منهم، آمالهم على هذا الإكتشاف باعتباره سيؤمن دخلًا ضخمًا للسلطة الفلسطينية، لتتمكن من تحسين وتطوير حياة المواطنين، لكن، ومنذ ذلك الحين لم يتمكن الفلسطينيون من الإستثمار في ثرواتهم وبقي الحقل غير مطوّر، في حين تنعم إسرائيل بإنتاج الغاز الطبيعي الفلسطيني المنهوب، وتصديره إلى جيرانها، مصر والأردن.. واليوم تسعى إلى تصديره إلى دول الاتحاد الأوروبي، التي هي بأمسّ الحاجة لهذه السلعة راهنًا، بعد توقف إمدادات الغاز الروسي عنها، ما يعتبره البعض سببًا إضافيًا يفسّر جانبًا من أسباب الدعم الأوروبي المطلق والأعمى لإسرائيل في حربها الراهنة.
وعلى مدار العقود السابقة، كما حُرم الفلسطينيون من سيادتهم على أراضيهم وحقهم بإقامة دولتهم المستقلة، حرمهم الاحتلال الإسرائيلي والدعم الغربي له، كذلك من حقهم الطبيعي في استخدام الموارد الطبيعية من أجل تلبية احتياجاتهم من الطاقة، علمًا أنهم يعانون من انعدام الوقود ومصادر الكهرباء، وتُحكم السلطات الإسرائيلية قبضتها عليهم لتبقيهم رهينة حرمانهم من التيار الكهربائي والوقود كلما اقتضت مصلحتها إطباق الحصار عليهم لتخضيعهم وتركيعهم كما حصل في العدوان الجاري على القطاع. علمًا أنّ الفلسطينيين يعتمدون على دولة الاحتلال في الحصول على قرابة 92% من الطاقة الكهربائية التي يستهلكونها، بمتوسّط استهلاك يُقدّر بحوالى 1.8 ألف ميغاواط، وتبلغ حصّة غزّة منه 600 ميغاواط.
وإلى حرمانهم من حقهم الإنساني في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للنهوض بمقومات معيشتهم وتطوير حياتهم، يتكبّد الفلسطينيون خسائر مضاعفة جراء منعهم من الاستفادة من مواردهم الطبيعية، مرّة في اضطرارهم لشراء احتياجاتهم من مصادر الطاقة ومرة أخرى في خسارة عائدات الغاز المتوقعة لو تم استخراجها. فوفق دراسة أعدها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، نُشرت عام 2019، خسر الفلسطينيون نحو 2.57 مليار دولار جراء منعهم من استغلال موارد الغاز في غزّة، وهذه التقديرات المالية مرتبطة بأسعار الغاز عند مستوياتها المنخفضة التي كانت سائدة في ذلك العام.
واللافت أنه، على مسافة ليست بعيدة من "غزّة مارين"، يقع حقل غاز آخر أصغر من الأوّل، لكنّ إسرائيل كانت قد استولت عليه واستنفدت مخزونه تمامًا عام 2012، وهذا ما تسعى إليه راهنًا، ليس من خلال منع استثمار الحقل الجديد وحسب، وإنما من خلال طرد الفلسطينيين من مناطقهم تمهيدًا لتصفية قضيّتهم والاستيلاء كليًا على ما تبقى من ثرواتهم.
وقبل سنوات وضع الإحتلال يده على مواقع إنتاج حيوية أيضًا، أبرزها، حقل "تمار"، بلغ إنتاجها 10.25 مليارات متر مكعب من الغاز عام 2022، وصُدّر منها 15% إلى مصر والأردن، بموازاة إعاقة السلطات الإسرائيلية أي تطوير أو أي محاولة لاستخراج الغاز من الحقول المحاذية لقطاع غزة، كونها تحدّد مساحة إبحار للفلسطينيين لا تتعدى 6 أميال بحرية فقط، علمًا أن، قانون البحار المعتمد دوليًا يعطي الحق للدول بالاستثمار في مياهها التي حددت بـ200 ميل بحري، كما أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد صوّتت لصالح مشروع قرار بعنوان "السيادة على الموارد الطبيعية" والذي ينصّ على السيادة الدائمة للشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة، وحقه في المطالبة بالتعويض نتيجة لأي خسارة، واستغلال أو استنزاف موارده الطبيعية.
واللافت اليوم، أنه في خضم حربها الدموية الراهنة على قطاع غزّة، أعلنت إسرائيل عن منح 12 ترخيصًا لشركات نفطية عالمية من ضمنها "بي بي" البريطانية و"إيني" الإيطالية للتنقيب عن الغاز في مناطق خاضعة لسيطرتها، من بينها مناطق محاذية لبحر قطاع غزّة!
وهنا تبرز أهمية الدلالات الكامنة وراء عبارة "غزّة ستكون تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية" التي ما انفك بنيامين نتنياهو يردّدها في الآونة الأخيرة.. وما على الراغبين بالتنقيب في "حقول" أسباب الحرب على غزّة سوى التمعّن بقراءة ما بين سطور هذه العبارة!
(خاص "عروبة 22")