إن ما نحتاج إليه في مجتمعاتنا هو كَسْبُ الذوات الفاهمة القادرة على تحليل المواقف وابتكار الحلول الناجعة التي تؤمِّنُ الاشتراك الفريد في الموقف المطروح عمومًا. ذلك أن مفهوم التعدُّدية لا تصنعه جهة بمفردها، بل تنشؤه الجماعات في علاقاتها التواصلية والتبادلية المتنامية. من هنا، فإنّ طرح مفهوم كـ"التعددية"، في مجتمعٍ لا يعي معنى عيش هذا المفهوم، سيكون تدخلًا خارجيًا في سياسة الثقافة المحليَّة للأفراد في هذا المجتمع. ولما كان الحرصُ على أن يكون الإنسانُ سيِّدَ نفسه في الواقع، فإن تمكين الذات من إبداع قيَمِها هو الفعلُ الذي يقتضي منا العناية الثقافية والنضالية لصناعته، أي لجعله معطى معرفيًّا سائدًا في الأذهان الشبابية الحية.
الانفتاح على الكل المحيط بدون مشروع لفهم هذا الكل يجعلُ منه وحشًا يبتلع مَن ليس بمستوى الشراكة معه
ونحن إذ نطرح التوجيه الثقافي في مجتمعاتنا، فإنّ ما نقصده بالضبط هو أن تتكاثَر المؤسسات الفكرية والثقافية ذات المشاريع والعناوين المفصَّلة المتنوِّعة. يجب أن يكون عندنا خيارات للانشغال الثقافي، بحيث يكون متاحًا للشباب فرصة الانتقاء في العناية بجانبٍ محدَّدٍ في الثقافة العربية، فتصبح العلوم الإنسانية هي المجال العام للتفكير العربي الحر في علوم العصر ومعارفه. إنّ الربط بين العلوم الإنسانية والتحصيل الثقافي اليومي للفرد هو الذي يُعلي مِن شأن الذات في فرض هيبتها الحضارية.
نعم، إن الهيبة الحضارية مطلوبة في المجتمع العولمي المفتوح، لأنّ السمات المميّزة للذوات تكون سمات ثقافية أخلاقية تحتاجها البشرية لتأمين استمرارية السلام والوئام.
إنّ عدم العناية بالثقافات الخاصة يخلق فوضى تواصلية بين الناس، تؤدي لاإراديًّا إلى التقاتل والتنافر، وفي النطاق الأوسع إلى الحروب والدمار. ذلك أنّ الانفتاح على الكل المحيط بدون مشروع لفهم هذا الكل يجعلُ منه وحشًا يبتلع مَن ليس بمستوى الشراكة معه. لذلك نرى النظام العالمي المهيمن يقصي الفاعلين غير القادرين على أن يكونوا أجزاء مساهمة في هذا الكل. والأنكى في الإقصاء الحضاري العولمي للثقافات، أن الثقافات اللامشارِكة ستكون موضوع دراسةٍ فولوكلورية أنثروبولوجية، فيجري تصنيمها وتشييؤها وتصبح موضوعًا من خارج الإطار العام للفاعلية الثقافية الحية، ويتم التعامل معها على أنها ثقافة الهوامش.
وظيفة المجتمع النهوض بذاته من خلال تنمية الوعي الفردي
من هنا نرى أن بناء قدرات الشباب لا يكون باعتماد وسائل الإلهاء والتسلية فحسب، بل بوضع خطط تربوية اجتماعية تفرض على الشباب عيشَ قيم المواطَنة والمدنية في مجتمعه المحلي. ويترافق هذا التكوين التربوي مع التزام المراكز التدريبية وضع برامج تثقيفية تتنوّع بين تعليم الفلسفة واللغة العربية والفنون للجميع بمستويات تصاعدية. وبما أنّ المدارس الأكاديمية لها مشاريعها الخاصة في التربية، فإنّ وظيفة المجتمع النهوض بذاته من خلال تنمية الوعي الفردي للأنا، حتى تتمكن من العيش السليم مع الآخر.