بدا واضحًا من مجريات الجلستين أنّ التدابير المؤقتة تمثّل جوهر هذه القضية، ربطًا بإمكانية تأخّر الفصل فيها بشكل نهائي، والسبب الرئيسي لذلك عجز المنظومة الدولية بكامل أجهزتها عن فرض القانون الدولي الإنساني على أراضي وسماء غزّة، وفشل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة في حماية أرواح أكثر من مليوني إنسان في غزّة خذلتهم الدول والمؤسسات، حيث تركّزت دفوع جنوب أفريقيا على ضرورة إقرار تلك التدابير باعتبارها مساعدة تدخل في صميم عمل المحكمة لإنقاذ حيوات البشر، وفي المقابل حاولت إسرائيل التصدي بحشد عبارات متهافتة ساقها محاموها عن إدخال المساعدات والمياه وعدم مسؤوليتها عن غلق المعابر.
ومع أنّ طرفَي الدعوى يعلمان جيدًا أنّ التدابير تظل في الأغلب حبرًا على ورق إذا لم يستجب لها مجلس الأمن بإصدار قرار يعتد بها أو يشير إليها، إلا أنّ لها أهمية استثنائية في حالة غزّة تحديدًا، فإقرارها سيكون أول خطوة لإسباغ وصف "الإبادة الجماعية" عل جرائم إسرائيل الممتدة منذ ثمانين عامًا، وأول حكم قضائي أممي في المجازر المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني الصامد، وربما يكون له تأثير غير مباشر على مسار التحقيقات المجمّدة في المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمعاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، فضلًا عن الحرج البالغ الذي سيقع فيه مجلس الأمن إذا استمر فشله في تبني قرار بوقف إطلاق النار بعد فشل قراره السابق الخاص بالهدن الإنسانية.
ثلاثة عوامل ضغط تحكم قرار القضاة
ولكي تقر المحكمة تلك التدابير يجب أن يتفق ثمانية من الخمسة عشر عضوًا على جميع البنود التي سيصدر بها أمر إقرار التدابير، ويجوز للقضاة الذين لم يتفقوا مع الأغلبية على كل بنود الحكم أو بعضها أن يصدر كل منهم بيانًا مستقلًا برأيه الخاص، الأمر الذي ينبئ بهوية القضاة الذين يقبلون أو يرفضون الطلبات المقدمة بالدعوى.
هذا الأمر، وإن كان ضامنًا لشفافية آراء القضاة، إلا أنه يمثل أيضًا عامل ضغط كبير عليهم، واختبارًا حقيقيًا لاستقلالهم، لا سيما وأنّ بعضهم ينتمي لدول لها مواقف رسمية معلنة مؤيدة للعدوان الإسرائيلي بل ومتشددة في رفض وقف إطلاق النار، الذي هو أول التدابير المؤقتة التي تطالب بها جنوب أفريقيا.
ونحن هنا بصدد الحديث –على سبيل المثال- عن رئيسة المحكمة جوان دونجو التي تنتمي إلى الولايات المتحدة وكانت تعمل لسنوات طويلة بالخارجية الأمريكية، وعضو المحكمة جورج نولته الذي أعلنت بلاده، ألمانيا، نيّتها التدخل في القضية إلى جانب إسرائيل ووصفت أفعالها بعد 100 يوم من العدوان الشرس بـ"الدفاع عن النفس ضد الهجمات اللاإنسانية من حركة حماس"، وعن القاضي الروسي كيريل جيفورجيان والقاضية الصينية خيو هانكوين ولبلديهما المتمتعين بحق النقض في مجلس الأمن –دائمًا- مواقف خاصة وسلبية من تداخل القضاء الدولي مع العمليات العسكرية والسياسية.
وبذلك يتبيّن أنّ جنسيات القضاة ومواقف دولهم من قضية محورية كالحرب على غزّة، تمثّل عامل ضغط ثانيًا عليهم، على الرغم من تمتعهم وفقًا لنظام المحكمة الأساسي بالاستقلال التام وبالمزايا والإعفاءات السياسية الكاملة، ولا يجوز – أدبيًا - التشكيك في مواقفهم وموازنتهم لما يًعرض عليهم من دفوع وأدلة، لكن الواقع العملي من خلال سوابق كثيرة ينبئ بمواءمات ليست بمعزل عن السياسة، أقلّها على مستوى سرعة البت في طلب التدابير المؤقتة.
التدابير العاجلة في قضايا البوسنة والروهينجا وأوكرانيا يجب أن تؤدي منطقيًا إلى صدور أمر مشابه ضد إسرائيل في غزّة
ففي السنوات الأخيرة تفاوتت استجابة المحكمة لطلب التدخل العاجل بشكل واضح بين قضية وأخرى، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بصعوبة التوصل إلى مواءمات سياسية. فقد أقامت غامبيا دعوى الإبادة الجماعية ضد ميانمار دفاعًا عن أقلية الروهينجا المسلمة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 وطلبت إقرار تدابير عاجلة، واستجابت المحكمة بعد نحو شهرين. بينما أصدرت أمرها بوقف الهجوم الروسي على أوكرانيا بعد أقل من أسبوعين من تسجيل الدعوى.
وثمة عامل ثالث يُمثّل ضغطًا على القضاة، هو إرث محكمة العدل الدولية ذاتها، فمن غير المستساغ قانونيًا أن يتم تجاهل مبادئ سابقة ومستقرة في حالات مشابهة أو مطابقة للدعوى المعروضة وتغيّر المحكمة اتجاهها بغير مبرر، والقصد هنا أنّ التدابير العاجلة التي أقرّتها المحكمة في قضايا البوسنة والروهينجا وأوكرانيا يجب أن تؤدي منطقيًا إلى صدور أمر مشابه وسريع ضد إسرائيل في غزّة، ليس فقط لفداحة التدمير الذي أصاب القطاع وجعله غير قابل للحياة تقريبًا، بل أيضًا لجسامة الخسائر البشرية من شهداء وجرحى ومشرّدين ومهجّرين، وتضافر صور مختلفة للجرائم ربما لم تجتمع سابقًا بهذا الوضوح، مصحوبة بكم غير مسبوق من الأدلة المرئية والشهادات واعترافات المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم.
وقد كان تركيز دفاع جنوب أفريقيا واضحًا على استغلال مبادئ المحكمة السابقة، خاصة في الاعتداد بالتصريحات الرسمية كدليل على توافر نية الإبادة الجماعية، وكفاية تعدد صور الجرائم لإثبات توافر "نمط" جنائي موحّد يؤكد العمل المنظّم للإبادة، بالإضافة إلى مسألة التقصير الجسيم لإسرائيل باعتبارها سلطة احتلال وسيطرة مطلقة في توفير الحماية للمدنيين وإدخال المساعدات لمنع وقوع جريمة الإبادة، وهذا التقصير كان السند الرئيسي لإدانة صربيا بالإبادة الجماعية في حكم المحكمة الصادر عام 2007 بشأن مجزرة سربرنيتسا إبان حرب البوسنة.
أطراف جديدة تقترب من لاهاي
وعلى عكس فترة التحضير القصيرة لجلستَيّ الاستماع والتي لم ينضم خلالها أي طرف ثالث للقضية عدا بعض البيانات "السياسية" دعمًا لتحرّك جنوب أفريقيا والتصريحات الأمريكية والغربية للتقليل من أهمية الدعوى ودفاعًا عن إسرائيل، فتحت المرافعات الطريق لدخول دول أخرى، على رأسها ألمانيا ومصر. حيث أعلنت برلين عزمها رسميًا التضامن مع إسرائيل بحجة أنها "تدافع عن نفسها ضد حرب لا إنسانية تشنها حركة حماس"، كما أعلنت القاهرة على لسان رئيس هيئة الاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية ضياء رشوان استعدادها لتقديم "رد مكتوب" إلى المحكمة لتفنيد المزاعم الإسرائيلية عن سيطرة مصر المطلقة على معبر رفح، والتي دفعت مصر لإصدار بيان على لسان رشوان، يُعتبر الأكثر قوة وصراحة خلال المائة يوم الماضية في الهجوم على الاحتلال واستنكار جرائمه وتعريتها أمام العالم.
ويتيح النظام الأساسي للمحكمة لأي دولة عضو بالأمم المتحدة التدخل كأطراف إضافية في القضية، سواء لتأييد أحد طرفيها، أو بطلبات جديدة ودفوع جديدة لم تُذكر أمام المحكمة من قبل. ويجوز أيضًا للدول المتدخلة أن تتقدّم بمذكرة مكتوبة أو بمرافعات شفهية أو كليهما، سواء في المرحلة الحالية الخاصة بالتدابير المؤقتة، أو بعد صدور التدابير في مرحلة نظر الاتهامات الموضوعية.
تقديم مصر للمذكرة القانونية قد يساهم في سرعة إقرار التدابير المؤقتة
ويسمح هذا الأمر لمصر بالإسراع في تقديم مذكرتها لتفنيد المزاعم الإسرائيلية لتكون تحت بصر القضاة قبل التداول النهائي في أمر التدابير المؤقتة، إذ إنّ شهادة مصر التي ستؤكد حرص الاحتلال على قصف معبر رفح من الجانب الفلسطيني وتخريبه والتهديد الدائم بقصف المساعدات والاستئثار بالتفتيش في معبر كرم أبو سالم الخاص بالبضائع، ستكون لها أهمية كبرى في دعم دفوع جنوب أفريقيا، وستساهم في تثبيت صور إجرامية مختلفة للإبادة الجماعية، كما ستبرّئ ساحة مصر دوليًا من محاولات تلطيخها بالأكاذيب الصهيونية.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ التدابير المؤقتة تخضع للسلطة التقديرية الكاملة للمحكمة ولا تنتج فقط عن مطالبة الطرف المدعي، وفي أي وقت من مراحل نظر الدعوى، إذا ما توافر أمامها ما يستدعي التدخل للحفاظ على الوضع كما هو حتى لا يتفاقم ويسهل حلّه. ومعنى ذلك أنّ تقديم مصر للمذكرة القانونية اليوم قبل الغد، قد يساهم في سرعة إقرار التدابير حتى بدون عقد جلسة استماع جديدة، كما لن يكون له أي أثر سلبي على حراك جنوب أفريقيا التي كانت تخشى التعطيل وتشتيت محاميها قبيل عقد الجلسة الأولى في حال انضمام أطراف أخرى لدعواها.
(خاص "عروبة 22")