ثمة بعض من الوجه الأسطوري لسردية مقاومة الشعب الفلسطيني دفاعًا عن قيمة ومعنى ودلالة الحرية والتحرّر، وذلك في مواجهة الحالة التراجيدية للحصار والعقاب الجماعي والتهجير القسري والإبادة الجماعية.
من بين ثنايا الحياة الغائمة، والخطابات المضادة المضطربة، ثمة بعض من النتائج الجزئية والأولية التي لا يزال بعضها في طور التشكّل والتغيّر والتبلور الجزئي، يمكن استنباط بعضها من الجحيم والهوس الإسرائيلي بالقتل والهدم، وذلك على النحو التالي:
1- بدايات مهمة لتناقضات بين بعض الجماعات الحقوقية والإنسانية في المجتماعات الغربية ودفاعها عن القيم الليبرالية والأخلاقية، وبين الطبقات والإدارات السياسية الحاكمة المؤيدة للسياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، ودعمهم لعمليات الجيش الإسرائيلي الوحشية في قطاع غزّة، وعنف المستوطنين وعمليات القبض والأسر والتدمير والقتل في الضفة الغربية!.. بدايات جزئية لكنها تؤشر لاحتمالات بعض من التغيّر المستقبلي في قضايا أخري.
جيل "Z" لم يعايشوا "المحرقة" والتطهير العرقي ومن ثم ليس لديهم الشعور بالإثم التاريخي والأخلاقي تجاه اليهود
2- مرجع هذا المؤشر السوسيو- سياسي يمكن تلخيصه في:
(أ)- كثافة ونوعية العمليات العسكرية من القصف الجوي بالصواريخ والقنابل المتطورة والمسيّرات والمدفعية والدبابات والعربات المدرّعة، في مواجهة المدنيين العزّل، والمقاومة التي تتّسم بالشجاعة والذكاء والإقدام وتسليحها الأقل تطورًا كمًا ونوعًا.
(ب)- الارتفاع المتزايد يوميًا لأعداد القتلى والجرحى، وخاصة من الأطفال والنساء والمسنّين العزّل، وتدمير المنازل والمباني، وتحويل القطاع إلى حطام.
(ج)- اهتزاز الوجه الأخلاقي للولايات المتحدة، وللإدارة الديمقراطية في ظل حالة من الدعم والتحيّز الكامل لإسرائيل مع بعض التوترات المحدودة مع نتنياهو ومجلس الحرب المصغّر حول سيناريوهات "اليوم التالي".
3- التغيّرات الجيلية في التوجّهات السياسية، لا سيما لبعضهم من جيل تسعينيات القرن الماضي، ونهاية السرديات الكبرى، وجيل "Z" الذين تشكّل وعيهم وتعليمهم وتنشئتهم الاجتماعية في عالم مختلف عن جيل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ولم يعايشوا "المحرقة" والتطهير العرقي، ومن ثم ليس لديهم الشعور بالإثم التاريخي والأخلاقي تجاه اليهود، التي لا تزال غالب الأجيال السابقة تحمله في وعيها السياسي والإنساني.
4- الأجيال الشابة الجديدة جاءت جزءًا من الثورة الرقمية، وعالم فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم يشكل التكوين الرقمي جزءًا رئيسًا من تشكيل عقلها الرقمي وعمليّاته، وتأثيره وتأثّره باللغة الرقمية والمشهدية البصرية وخطابات الفيديوهات الطلقة والمنشورات والتغريدات.
ثمة مواقف وتوجّهات تشكّلها المجتمعات الرقمية المحلية والوطنية والكونية إزاء تفاصيل الحياة على هذه المستويات والنطاقات، وتبدو جلية في التفضيلات السلبية والحيادية والإيجابية، وتجاه الأزمات الدولية والإقليمية، والحروب وضحاياها، ويستطيع بعضهم الوصول إلى المعلومات والأخبار الصحيحة والمزيّفة، وجذور وتاريخ النزاعات المسلّحة وأطرافها واكتشاف بعض من حروب الأكاذيب بين المتنازعين ومؤيديهم!.
5- بعض الأجيال الشابة الرقمية يمثلون جزءًا من نسيج ثقافة الحياة الفردية، وقيمة الحياة الآمنة، ومن ثم يجرح تصوّراتها المذابح والإبادة الجماعية وتحطيم المدن، على نحو ما ظهر في عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة.
6- تداعي وتتالي الخدوش حول الصورة السياسية والأخلاقية للنموذج الإسرائيلي للدولة والنظام السياسي "الليبرالي والعلماني" فائق التطوّر العلمي والتقني والاقتصادي في الشرق الأوسط، الذي يعيش وسط دول أقل تطورًا، ومجتمعات عربية إسلامية ومسيحية انقسامية – متشظية المكونات الداخلية -، وتعاني من معضلات الاندماج الداخلي والتوتاليتارية والتسلّطية السياسية وفشل عمليات الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي، وتوظيفها السياسي للدين، ومعاناة الأقليات داخلها وانتهاكاتها الممنهجة لحقوق الإنسان داخل كل دولة عربية.
هناك ضبابية حول استراتيجية ما بعد الحرب وتناسي أنّ إيديولوجيا حماس ذات سند اجتماعي في القطاع والضفة
هذا التناقض بين الوجه الأخلاقي للدولة والنظام الإسرائيلي، والوجه الديني واللا أخلاقي للنخب السياسية العربية، أدى إلى بعض من التشابه، في ظل خطاب اليمين الديني المتطرّف، في الائتلاف اليميني الحاكم، وتناصات لغته مع اللغة الدينية التوراتية، والمترع بمفردات تدعو إلى الإبادة الجماعية، والتهجير القسري.
7- اهتزاز بعض من صور الفوائض التاريخية للتطهير العرقي والمحرقة التي حدثت لليهود في ألمانيا وبعض التمييز ضدهم في الدول الأوروبية بالحرب العالمية الثانية والتي أدت إلى حالة من الدعم السياسي والثقافي والإعلامي والقيمي لليهود وإسرائيل في أوروبا، والمسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة.
8- انحياز الإعلام التقليدي الغربي – المكتوب والمرئي والمسموع – للحرب على قطاع غزّة، وخطاب الدفاع الشرعي الإسرائيلي عن نفسها ضد المقاومة والمدنيين العزّل، وهو ما نشّط وحفّز إعلام المواطن الرقمي/الفعلي على الوسائط الاجتماعية، وتعرية بعض مظاهر الكارثة الإنسانية للحرب، وإظهار مشهدية الإبادة والحصار والعقاب والموت والجوع والألم تجاه الإعلام التقليدي.
9- عودة المسألة الفلسطينية إلى واجهة المشهد العالمي والعربي مجددًا، وتراجع جزئي للحرب الروسية/الأوكرانية التي كانت مركزًا في مناطق الصراع الدولي حول السعي لتغيير قمة النظام العالمي من الأحادية القطبية إلى تعدد الأقطاب، ومن ثم وظّفت روسيا هذا التغيّر ومعها الصين، وتركز انتباه السياسة الأمريكية نسبيًا نحو الإقليم الشرق أوسطي.
10- بعض من اهتزاز صورة القوة الشاملة للدولة الإسرائيلية، وقدراتها على تحقيق الردع، والأهم تلبية الحاجة والطلب الاجتماعي والسياسي الجمعي على الأمن لدى مواطنيها. من ثم أدت الحرب إلى بعض من الفجوات الجزئية بين النخبة السياسية الحاكمة، وبين بعض القطاعات الاجتماعية الداعمة لها، بما فيها مدى قدرة الجيش على الوفاء وإشباع المتطلبات الأمنية للدولة والمجتمع، لا سيما بعد الفشل الاستخباراتي والأمني لأجهزة "الموساد" و"الشاباك" و"آمان"، ناهيك عن تزايد بعض من الضغوط الداخلية لأُسر الأسرى لدى المقاومة، وتمدد بعض من المؤيدين لهم في ضرورة الوصول لصفقة للإفراج عنهم "الآن" في معادلة "الكل مقابل الكل" التي طرحتها المقاومة.
11- تزايد التكلفة الاقتصادية والاجتماعية للحرب.
12- بعض من مؤشرات الهجرة العكسية الجزئية إلى دول أوروبية والولايات المتحدة، من بعض الإسرائيليين من ذوي الجنسيات المتعددة، وعودة لبعضهم ممن يحملون جنسيتها للمشاركة في الحرب.
13- انكشاف جزئي لخطاب اليمين المتشدد، والديني المتطرف، ورموزهم داخل مجلس الحرب المصغر والحكومة الموسعة، وتأثير ذلك السلبي على الإدعاءات الأخلاقية والإنسانية للدولة والنخبة السياسية الحاكمة، والصهيونية، وبعض توظيفات النص التوراتي المقدّس في تناصاته المركزية بالخطاب السياسي، وفي نظرتهم الاستعلائية للإنسان الفلسطيني، وشرعنة الإبادة الجماعية والهجرة القسرية للشعب الفلسطيني، وهو ما وظّفه الخطاب القانوني الدولي لفريق جنوب أفريقيا ببراعة أمام محكمة العدل الدولية، ووجد ذيوعًا على وسائل التواصل الاجتماعي كونيًا.
14- تفاقم جزئي للانقسامات داخل الحكومة ومجلس الحرب حول مستقبل القطاع في "اليوم التالي" للحرب، بين رئيس الوزراء نتنياهو، ويوآف غالانت وزير الحرب، وبيني غانتس قائد الجيش السابق.
نتنياهو وجهة نظره ملتبسة جزئيًا يفصح في بعض تصريحاته التي يرى أنّ الصراع ليس على الدولة الفلسطينية وإنما علي وجود الدولة الإسرائيلية، ومن ثم عن رفضه للسلطة الفلسطينية، ويركز على حكم محلي داخل القطاع في ظل مناطق عازلة، وقيام الدول العربية بتمويل إعادة بناء القطاع، في ظل هدفه تحطيم البنية التحتية لحماس والأنفاق واغتيال وقتل قادتها، ورفض الحديث عن مسار التفاوض حول حل الدولتين، ومراعاة حلفائه من اليمين الديني المتطرّف حفاظًا على تماسك الائتلاف الحكومي!.
ثمة احتمالية لبعض من التغيّر الجيو-سياسي والجيو-ديني في الأجلين المتوسّط والبعيد
غالانت يذهب إلى العودة للحكم الذاتي، وتشكيل قوة متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة، وشركاء أوروبيين وشرق أوسطيين للإشراف على عمليات إعادة تأهيل القطاع، وإسناد إدارة القطاع للسلطة الفلسطينية بعد تنشيطها، وفق تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال".
يذهب غانتس – زعيم حزب الوحدة الوطنية – ونائبه غادي أيزنكوت إلى الدخول في محادثات مع حماس لإعادة الرهائن.
من ثم هناك ضبابية حول استراتيجية ما بعد الحرب، وتناسي أنّ ثقافة وإيديولوجيا حماس ذات سند اجتماعي وسط سكان القطاع، ولدى سكان الضفة الغربية.
المناكفات والصراعات داخل الحكومة ومجلس الحرب المصغر، تعكس في بعض أبعادها صراعات حزبية وانتخابية على الدور والمكانة والمساءلة بعد الحرب.
بعض ما سبق من ملاحظات جزئية دونما مبالغات من المحتمل أنّ بعضها قد يؤدي إلى تغيّرات داخل المجتمع الإسرائيلي، وفي إقليم الشرق الأوسط، وفي العالم العربي المفكك، وثمة احتمالية لبعض من التغيّر الجيو-سياسي، والجيو-ديني في الأجلين المتوسّط والبعيد.
(خاص "عروبة 22")