العرب وطموح الوحدة

الانـدمـاج والاتّـحاد

مـا شكـلُ الوحدة الأكثـرُ ملاءَمـةً للعرب، اليوم، بعد ردْحٍ من الزّمـن طـويلٍ عاشوا فيه في أكناف كيانات سياسيّـةٍ مستـقـلّـة تتبادل بينها التّعاوُنَ أو النّـكاية أو الجفاء؟ هـل أيُّ نموذجٍ للوحـدة بينهم سيكون قابلًا للحياة وللبقاء، حُـكْمًا، أم على النّموذج ذاك أن يستجيب لواقعٍ تاريخيّ فيستوعبـه بمرونـة؟ ثمّ هل من الصّواب أن يُـعْـمَـل بمبدأ "التّـدرُّج" في عمليّـة بناء الوحدة أم ليس من ضمانات لأن يَـفـتح التّـدرُّج أفـقًا نحـو الأعلى (كما لم تفـتح جامعة الدّول العربيّـة أفـقًا نحو ما بعدها الأعلى: حتّى لا نقول إنّها تراجعت وراءً!)؟.

الانـدمـاج والاتّـحاد

هـذه أسئلة تَـطرُق أذهان كثيرين ممّـن يتملّـكهم الإيمانُ بضرورة الوحـدة العربيّـة. بعضُها طُـرِح في الماضي، وكان الجوابُ عنه في جملة اليـقيـنيّـات السّياسيّـة السّائـدة - إبّـانـئـذٍ - في بيـئات الوحدويّـين العرب، وبعضُها الثّـاني يُطْرح اليوم لأنّ الحاجـةَ والمتغـيّـرات دَعَـت إلى ذلك. وبـيِّـنٌ أنّ الأسئلة المومأ إليها - وغيرها كثير- لا تسائل مبدأ الوحدة ذاتَه أو تشكِّـك فيه، بل تسلِّم به منصرفةً إلى إجالة النّظر في ما عساهُ يكون "شكـلُ"  تلك الوحدة، أي - عمليًّا - إطارُها الدّستوريّ الأَوفـق.

كنتُ مع مبدأ الوحدة من غير شروط وأيًّا يَـكُن شكْلُه

كنتُ، قبل نيّـفٍ وثلاثين عامًا، أَرُدُّ دعوى من ينـتقـدون نموذج الوحـدة الاندماجيّـة - متّهِمين إيّاه بالتّسلّـطيّـة المركزيّـة الابتلاعيّـة من النّمط التّوحيديّ القسريّ البسماركـيّ - بالقول إنّهم ينْسون أنّ التّاريخ قد يفرض على العرب، في مكانٍ مّا من جغرافـيّـتهم، هـذا النّوع من الوحـدة الاندماجيّـة، وربّما حتّى من غير إبرام اتّفاقٍ عليها (على مثال ما حصل في الوحـدة المصريّـة - السّـوريّـة في العام 1958). حينها، هل سيكون على رافضي الوحدة التي من هـذا النّمط - كـنتُ أسأل - أن يقـفوا في وجهها معترضين ومغامرين، في الوقت عيـنِـه، بالصّيرورة قسمًا من التّـيّار المعادي للوحدة، أم سيكون عليهم احترامُ موضوعيّـة التّاريخ وضروراتِـه وتأيـيد عمليّـة الوحـدة تلك مع النّضال - تزامنًا - من أجل ترشيدها والتّخفـيف التّدريجيّ من مركـزيّـتها الصّارمة إنْ وُجِـدت؟.

كنتُ، لحظـتـئـذٍ، مع مبدأ الوحدة من غير شروط وأيًّا يَـكُـن شكْـلُـه وما كنتُ أدافع عن نموذجٍ وحيـدٍ لها هـو الوحدة الاندماجيّـة. وآيُ ذلك أنّـي كتبتُ كتابًا في الموضوع (خريف العام 1989 وشتاء العام 1990) أدافع فيه عن سلامة المسار التّعاونيّ الإقليميّ الجديد الذي فتحه، حينها، قيامُ اتّحادين إقليميّـيْـن فرعيّـيْـن هما: "اتّحاد المغرب العربيّ" و"مجلس التّعاون العربيّ"؛ وقد تأسّسا مـعًا في فبراير/شباط من العام 1989 ليستأنفا ما قـد بدأه "مجلس التّعاون لدول الخليج العربيّـة" (ماي/أيار 1981). ولقد خُـيِّـل إليّ - كما إلى غيري - أنّ مثـل هـذا المسار قـد يفضي بالدّول الشّريكة في هاتيك الاتّحادات إلى عـتـبةٍ متقـدّمة من الاندماج الإقليميّ؛ فما أحـدٌ كان يتوقّـع أن تتهالك التّجـربتان، سريعًا، تحت وطـأة أزمة الخليج وحربه الثّانية ثمّ أزمة لوكربي وحصار ليبيا، فيتهالك - بالتّـبِعة - التّعويلُ على ذلك المسار... ولو إلى حيـن. 

أصبحتُ أرجّح أن نسلك إلى عمليّة الوحدة مسلكًا واقعيًّا ومتدرّجًا وتوافُقيًّا من طريقٍ اتّحاديٍّ جماعيّ

ما عُـدْتُ، اليوم، أَميل إلى نموذج الوحدة الاندماجيّـة حتّى لو فرضه التّاريخ الموضوعيّ؛ بل ما عدتُ مقـتنـعًا بإمكان حصوله يومًا لغياب القاعدة الكيانيّـة القائدة التي قـد تنهض بدور تحقيقـه، ناهيك بما أصبح يمكن على هذا النّموذج دفْـعُه من ثمـن باهظ لقاءَ قيامـه إلى الحـدّ الذي قـد يعادل فيه امتناعَ الإمكان: من قبيل امتناعه على الصّين - وما أدراك ما الصّين اليوم - أمام رفض تايوان ودول الغرب. أصبحتُ أرجِّـح أن نسلك إلى عمليّة الوحدة، في الوطن العربيّ، مسلكًا واقعيًّا ومتدرّجًا وتوافُـقـيًّا بحيث نَـلِج إليه من طريقٍ اتّحاديٍّ جماعيّ يقع التّراضي عليه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن