بصمات

إنهاء الهزيمة.. بالفكر!

الجغرافيا الوحيدة المُمكنة وجوديًّا بعد الهزيمة في الحرب هي الفكر. إنّ الانهمام بالجغرافيا وإدامة التفكير في الحدث الرّاهن بشجاعةِ الوعي لحجم الإقامة الحرّة في الواقع، هو الذي يُمَكِّنُ من بناءِ تصوُّر للوطن، وفق الخرائط المُقترحة التي بسببها قامت الحرب. لا يمكن الخروج من دوَّامة الاعتراك العبثي سوى بتشغيل الوعي قصديًّا في إعادة مُعاينة الأسباب الحقيقيّة للحرب، بحيث نفهم العلاقة بين الأطراف المُتحاربة وبين أدوات المعركة بشرًا وسلاحًا وإمكانات، وكذلك في طبيعة الأرض التي تجري فوقها الحرب، بين أممٍ من خارج هذه الأرض المحروقة!.

إنهاء الهزيمة.. بالفكر!

إذًا الوطن مفهومٌ يتزحزح كلما اشتدّ ظهور اختراب العلاقة بالقيم الإنسانية على أرضه. تترنَّح العلاقة بهذا المفهوم نتيجةً لغياب الحصانة الأخلاقية الوجوديّة بمفاهيم الصمود والثبات والدفاع عن الوطن. فالقيم لا تعيش في الفضاء، بل في سلوك الناس ومعيشهم اليومي، لذا لا بدّ خلال اشتداد الأزمة من إِعمال الفكر في الزمن المُقبل، أي في مستقبل الوطن بعد سيلان الخراب والإبادة المجانيّة للجماعة. هل من الصمود أن نموت؟!، أو أنه لا بدّ من التحرّر الوثيق بذكاءٍ يفوق قدرة الدمار على بلوغ الروح وقتلها؟!.

نحن الآن نعيشُ الموتَ ولا نموت فحسب، لذا من البطولة بمكانٍ أن تنجوَ من الموت، كي تفشلَ الحربُ في إنهاء كِيانك الإنساني. الحرب ليست قضاءً وقدرًا كي نعدَّ أنفسنا كلّ الوقت ضحايا تاريخيين للتآمر علينا، أو للظلم التاريخي على معتقداتنا، أو لوجودنا القومي وأمننا الذّاتي... إلخ. إنّ الكينونة الضحية هي أصعب أنواع العيش المهزوم، أمّا الكينونة المتفكِّرة في ممكناتها فهي التي تمنح الكائن قدرةً على الانوجاد مجدّدًا على الأرض.

الخطوُ لا يترك أثرًا في الدوران العبثي بل في التقدّم نحو أهداف رسمتها سياسات التفكير في المُمكنات

إنَّ التحيّز الجغرافي والتوسّع القيمي الذي ننشده هما نتاج التعقُّل والتدبُّر والعزيمة والأناة، نعم هناك شروطٌ قَبْليَّةٌ على الفكرِ أن يُساوِقَ فيها عيشه. هذه المفاهيم هي التي بإمكانها أن تُحدثَ نقلةً نوعيةً في طبيعة الحضور البشري على أرضنا.

ماذا نريدُ من الدولة، وماذا نريد من السياسة، وماذا نريد من الأمّة؟ علينا التزام السَّير إلى الأمام، فالخطوُ لا يترك أثرًا في الدوران العبثي، بل في التقدّم الانبعاثي المكين نحو أهدافٍ رسمتها سياسات التفكير في المُمكنات.

لا يمكنُ ألّا نعترفَ بالواقع إذا أردنا مجاوزته لتجويد حياتنا وتحسين معيشتنا. كما لا يمكننا اعتناقُ المفاهيم عينها كلّ الوقت، فتتحوَّل من دون أن ندري إلى عقائد، وتتصلّب إيديولوجيًّا، من دون مبرِّرٍ سوى التزمُّت والتعصّب الناجمَيْن عن الخوف من أن يُقدم الآخر على إلغائنا.

تفشل الحركات التحرّرية إذا لم تسعَ إلى توسيع آفاقها النضالية الفكرية

التعصّبُ لا يصنع النصر، بل إنّ النصر الحربي ممكن لكلّ مَن لديه تفوّق علمي وقدرة على تشغيل الذّكاء الاصطناعي، اليوم، في إدارة المعركة، لكن هذا لا يكفي لينتصر بتعصُّبِه على الحيثيّات الفكرية المستمرّة التي تقيمُ اعتبارًا لوجودي الحرّ في هذا العالم. كذلك، إنّ خدمةَ العقائد القومية - الدينية لبلدٍ آخر لا تنفع في التأسيس الحقيقي لشخصية المُحارب الحرّ في بلدي، بل إنّ هذا التخديم يُفقِدُ صاحبَه الإرادةَ في مبادرةِ الحدث بالتفكير.

على المرءِ إذا وقع ضحيةَ إرادةٍ شريرةٍ في هذا العالم أن يُحارب بثقة، فيكون مُحصّنًا بالإرادة الخيِّرة التي تجعل انتماءَه إلى أرضه ليس مسألة تعصُّبٍ لدينٍ أو حزبٍ أو إيديولوجيا فكرية، بل أن يكون بمستوى الدفاع الحقيقي عن إنسانِ الأرض، أي عن قيم الحقّ والعدالة والاشتراك في العيش.

إنّ النضال التحرّري لا يمكن أن يكون نضالًا شخصيًا أو ذاتيًا أو جهويًّا، بل هو نضالٌ إنسانيٌّ مُطلق، لذا تفشل كلّ الحركات التحرّرية إذا لم تسعَ كلّ الوقت إلى توسيع آفاقها النضالية الفكرية لتشمل الإنسانيّة جمعاء. علينا أن نَقْتُلَ فكرة القتل نفسِها في ذهنِ العدو الذي يستهين بقتلنا، وهذا لا يتمُّ لنا إلّا إذا حرمناه من فُرَص قتلنا، وأجبرناه على الإقرار بالحقّ الذي لنا. لا يمكننا تحدّي الشرّ، فقط لأنّنا نملك الحقّ، فحجِّية الحقّ لا تكفي لإفناء الروح الشريرة من ممارسة تدميريّتها على البشريّة.

لا حقَّ بلا نفوس حرّة تُناضل في سبيله

إنّ ما يعزّز فرص توسعة جغرافيا الحقّ إنسانيًّا هو ابتداء التفكير بمسلكٍ نضاليّ شجاعٍ، قوامه العودة إلى التفكير الحرّ في الممكن، بحيث يبدأ المرء قراءة المشهد الذي هو فيه، من دون الخروج عن مقتضيات الفهم الحدثي، ويبادِرُ هذا المناضل إلى منع الاستعصاء الذي يسرِّعُ التدمير، في كلّ مرة يشعر فيها بأنّ العدو الشرّير المتعصّب للهيمنة قادرٌ على ممارسة الإبادة.

التفكير بالأمّة وكيانها وأمنها ليس مسألة خرائط يحملها التجّار والسياسيون والكليبتوقراطية (kleptocracy - الحكام اللصوص) السائدة في حكم العالم، بل هي إرادة حرّة في بناء العزم على سُكنى الواقع بملازمةٍ دائمةٍ للتفكير فيه.

علينا إنهاء ذهنية الانهزام والخروج من تكرار الهزيمة بإحداث الفرقة بينها وبين أسبابها، وهذا ما تؤسّسه ذهنية الانفتاح على الحرّية بأنها صنوُ الحقِّ في التحقّق، فلا حقَّ بلا نفوسٍ حرّةٍ تُناضل في سبيله، حيث لا يشكل اشتداد الفكر سوى إقصاء لهيمنة الشرّ ودنوّ من استقبال مظاهر الحقّ في الواقع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن