هجرة الأدمغة العربية، بحسب الخبراء، ظاهرة آخذة في التفاقم لعدة أسباب حاسمة، منها عدم انفتاح منظومة التعليم على سوق الشغل، وعدم إشراك هذه الكفاءات في التخطيط الاستراتيجي، والانبهار بمنجز الغرب العلمي والتكنولوجي، وضعف الميزانيات المخصصة لتطوير البحث العلمي، وتهميش العلم والعلماء، وفيما تعود هذه الهجرة بالنفع العميم على الدول المستقبلة، تفقد البلدان الأصلية موارد وطاقات بشرية هائلة كانت بين يديها قبل أن تفرط فيها.
تكاد تتطابق العديد من التقارير والدراسات بشأن ظاهرة هجرة الأدمغة من البلدان العربية إلى أوروبا وأمريكا وكندا، إمّا من أجل استكمال مساراتهم التعليمية والأكاديمية، أو من أجل البحث عن وظائف مرموقة في بلدان لا تضيّع فرصة استقطاب واحتضان هذه الأدمغة العربية، فتوفر لها الشروط المادية والمعنوية للعطاء والإنتاج.
الوطن العربي يخسر ثلث طاقاته البشرية
ويهاجر آلاف الكفاءات العالية في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا والفيزياء والعلوم المختلفة من بلدان عربية، من قبيل المغرب ولبنان ومصر والعراق وفلسطين وسوريا وتونس والجزائر وغيرها، صوب فضاءات أرحب في أوروبا وأمريكا، بحثًا عن الاستقرار المعنوي والمهني، والتحفيز المادي والمهني أيضًا.
وتفيد التقارير والدراسات أنّ الوطن العربي يتكبّد خسائر تضاهي ثلث طاقاته البشرية بسبب هجرة العقول هذه، وأنّ نسبة النصف من هؤلاء العقول هم أطباء، و23% مهندسون من ذوي الكفاءات العالية، فضلًا عن تخصّصات علمية أخرى في مجالات الرقمنة والتكنولوجيا والفيزياء النووية. وفي هذا السياق، كشف تقرير حديث لموقع Global Economy المتخصّص في دراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، أنّ سوريا أكثر الدول العربية معاناةً من هجرة العقول لمؤشر يصل إلى 8.1 يليها المغرب بـ7.4، واليمن 6.7، والعراق 6.4، ولبنان 6.3، وتونس 5.5، والجزائر 5.4، ومصر 5.1، وبلدان أخرى لا يتسع المقام لذكرها جميعها.
وسبق للتقرير العالمي الصادر عن منظمة اليونسكو لرصد التعليم في الدول العربية لعام 2019، أن كشف أنّ أعلى معدلات الهجرة للأدمغة إلى الخارج تشهدها كل من لبنان والمغرب على وجه الخصوص، حيث يهاجر واحد من كل 4 أشخاص من ذوي الكفاءات العالية.
تهديد.. ونزيف
في هذا الصدد يلفت الباحث في الاتصال والحوار الحضاري، الدكتور المحجوب بنسعيد، إلى أنّ "ظاهرة هجرة الأدمغة، أو هجرة العقول العربية، إلى أوروبا وأمريكا حظيت منذ عقود بالاهتمام باعتبارها تشكّل تهديدًا خطيرًا للموارد البشرية المؤهلة والكوادر العلمية المتخصصة"، وأردف في تصريح لمنصّة "عروبة 22"، أنّ "الكثير من الدول العربية، خاصة في منطقة المغرب العربي والأردن ومصر واليمن وسوريا وفلسطين والسودان وليبيا والعراق، تواجه نزيف هجرة الكفاءات والأدمغة إلى الغرب، حيث تستفيد منهم دول أخرى استطاعت أن تخلق لهم الشروط المناسبة للاستقرار".
وإذ يعرب عن قناعته بأنّ "أغلب هذه الكفاءات العلمية المهاجرة إلى الجامعات ومراكز البحث في الدول الأوروبية والأمريكية ترغب في العمل في بلدانها الأصلية لكنها تفضّل الهجرة لأسباب عديدة وردت في تقارير لجامعة الدول العربية وفي استراتيجية الإيسيسكو حول سبل الاستفادة من الكفاءات المسلمة المهاجرة إلى الغرب"، يوضح بنسعيد أنّ من أبرز أسباب هذه الهجرة "عدم إشراك الكفاءات العربية في التخطيط الاستراتيجي ووضع برامج التنمية والتطوّر العلمي والصناعي، وضعف الميزانيات المخصصة لتطوير البحث العلمي، وعدم إيلاء الاعتبار اللازم للعلم والعلماء وإحلالهم المكانة الاجتماعية اللائقة، والتقصير في تطوير مناهج التعليم وخاصة التعليم العالي، حيث تحتل الجامعات العربية مراكز دنيا في ترتيب الجامعات الدولية، إضافةً إلى افتقار البرامج الحكومية في أغلب الدول العربية إلى عناصر الجذب ومنها تقديم أجور مرتفعة للعلماء وتقديرهم المعنوي وتخفيض الضريبة على دخل العلماء، وإيجاد بيئة علمية متميّزة".
دوافع.. ومقترحات
أما الأكاديمي والأستاذ بجامعة مراكش، الدكتور إدريس لكريني، فيرى أنّ الهجرة في "معناها الشامل والإيجابي ظاهرة إنسانية ساهمت بصورة كبيرة على مستوى التلاقح الحضاري، وانتشار المعرفة والأديان والعلوم والثقافات ولا يمكن أن نقرنها فقط بمظاهر سلبية، لكن في المقابل وبالنظر إلى تعقد العلاقات الدولية وتباين التنمية بين دول ضعيفة تصارع من أجل البقاء والتنمية وتوفير أساسيات الحياة، ودول تعيش الرفاه والتقدم، أصبحت هذه الظاهرة تواجه الكثير من الإشكاليات، ومن أبرزها الهجرة غير النظامية والهجرة القسرية وتهريب البشر، وأيضًا هجرة العقول".
وعزا لكريني، في تصريحه لمنصّة "عروبة 22"، دوافع هجرة العقول من البلاد العربية إلى "عدم انفتاح المنظومة التعليمية على سوق الشغل، وعدم إرساء تدابير ناجعة تكفل الاستفادة من هؤلاء الخريجين الذين تصرف عليهم الدول من خلال ميزانياتها في التعليم والتطوير"، مبرزًا أنّ "هذه الظاهرة تكلّف الدول العربية المعنية بها هدرًا للطاقات البشرية التي من المفترض احتضانها من طرف القطاعين العام والخاص بصورة يجعلها تساهم في خلق التنمية وتطوير مجتمعاتها".
وبالمقابل، يتابع لكريني: "تستفيد الدول الغنية، خصوصًا أمريكا وكندا بشكل كبير، من أصحاب هذه العقول الذين ينخرطون في تعزيز تنمية الدول التي تحتضنهم وتوفر لهم بيئة ملائمة للشغل، ما يجعلهم يحققون مكتسبات مهمة لذواتهم، وكذلك للبلدان التي تحتضنهم، علمًا أنّ هذه الدول ومهما مَنَحَت المهاجرين من ذوي الكفاءات إليها من إمكانيات تظل هي الرابحة، باعتبار أنّها استفادت منهم على قدر كبير"، ولهذا، يشير إلى أنّ "المغرب شرع في سنّ تدابير وسياسات من أجل إعادة استقطاب الكفاءات، لتساهم في تطوير المجتمع في مجالات التعليم والتكنولوجيا والرقمنة"، مشددًا في هذا المجال على "ضرورة العمل على تطوير منظومة التعليم والسياسات العمومية من خلال الاهتمام بالكفاءات والأدمغة وتحسين شروط اشتغالها وتمكينها من فرص داعمة للانخراط في عملية التنمية بالبلدان العربية".
(خاص "عروبة 22")