اقتصاد ومال

"الحقبة الاحتكارية" عالم رائع للقلّة الثروية وآخر وحشي للكثرة الفقيرة

من يريد أن يعرف، بدقة، ما آلت إليه أحوال الكوكب ومواطنيه (اقتصاديًا، سياسيًا، اجتماعيًا وبيئيًا)، عليه أن يتابع فعاليات منتدى دافوس الاقتصادي العالمي التي تجري سنويًا بأعلى إحدى قمم جبال سويسرا في يناير/كانون الثاني منذ سنة 1971 من جهة؛ كذلك تقرير مؤسسة أوكسفام التنموية الدولية التي تنخرط في الكثير من المشروعات التنموية/الاجتماعية في دول العالم، وهو التقرير الذي تحرص على إصداره عشية التئام منتدى دافوس كل عام، من جهة أخرى.

يعكس الحدثان رؤيتين متناقضتين للعالم؛ الأولى تعبّر عن رؤية نخبة العولمة، أو الليبرالية الجديدة، بينما تكشف الثانية عن رؤية مغايرة تمامًا للأولى.

فبالرغم من اعتراف نخبة العولمة الملتئمة في دافوس، بما تضم من ساسة وقادة واقتصاديين واستراتيجيين وباحثين وماليين وأصحاب شركات واستخباراتيين وناشطين مدنيين؛ بمدى سوء الوضع الاقتصادي العالمي الذي من "المرجح أن تتفاقم أزماته في العقد القادم"، والتوافق حول ضرورة "تصحيح المسار"، إلا أنّ المعنيين لا يبادرون باتخاذ أية إجراءات عملية في اتجاه جعل عملية التصحيح نافذة.

ساهم في انقسام عالمنا تسليم حكومات العالم السلطة إلى الشركات الاحتكارية وتحوّل الدول إلى أسواق مفتوحة

وعلى الرغم من أنّ هناك تيارًا نقديًا داخل نخبة العولمة يحث على الأخذ بإجراءات تصويبية من أبرزها "فرض المزيد من الضرائب على الأثرياء من أصحاب الثروات الكبيرة"، - هكذا طالب التيار النقدي في دافوس 2023، وألحوا في الطلب خلال اللقاء الذي انعقد في الفترة من 15 إلى 19 يناير/كانون الثاني الجاري -، إلا أنّ النقاشات تشير إلى أنّ هناك تقاعسًا عن تنفيذ ما يصب في تحسين الأحوال المعيشية لغالبية مواطني الكوكب، وهو ما أثبته تقرير أوكسفام لسنة 2024، الذي صدر تحت عنوان: "شركة اللامساواة"، والذي نلقي بعض الضوء على ما ورد فيه.

كشف تقرير أوكسفام كيف أنّ العالم تديره ذهنية "شركاتية/كوربوراتية" تمارس سلوكًا احتكاريًا عابرًا للحدود عبر حلفاء من الماليين والسياسيين في السلطة وخارجها أو ما أطلقت عليه مرة "شبكة الامتيازات المغلقة" للسيطرة على مقدرات العالم بهدف زيادة عوائد المساهمين.

وقد أدى السلوك الاحتكاري، عبر الهيمنة "الشركاتية"، إلى أن ينقسم العالم انقسامًا حادًا بين "قلة ثروية" لا تزيد عن الـ1% تستحوذ على أكثر من نصف الثروات/الأصول المالية في العالم، وهو ما يمثّل ضعف الأموال التي يمتلكها أفقر 99% من سكان العالم الذين يتجاوز عددهم أكثر من ثلث سكان الكوكب.

ونشير إلى أنه بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط فيستحوذ 1% من الأكثر غنى على 48% من الثروة المالية مقابل الـ99% الأكثر فقرًا على 52% من تلك الثروة، الأمر الذي دفع التقرير إلى أن يصف الواقع الكوكبي الراهن بأنه "عصر جديد من تفوق أصحاب المليارات" الذين يسيطرون على العالم من خلال الاحتكارات والتمويلات والقروض. وقد أفضت هذه السيطرة إلى انقسام عالم اليوم إلى عالمين، حسب وصف أوكسفام، هما: "عالم وحشي للغالبية من البشر، مقابل "عالم رائع للقلّة" القليلة من البشر.

دشّن هذا الانقسام، بحسب التقرير، "عصرًا جديدًا من الاحتكار"؛ وذلك بفعل تمكين "الشركات الاحتكارية الكوكبية" أو "التعزيز الفائق لسلطة الشركات"، من السيطرة على الأسواق وتحديد شروط التبادل والربح من دون الخوف من خسارة أعمالها، ودون اعتبار لمصائر الناس وسلامة الكوكب.

بلغة أخرى، صار الربح ولا شيء غير الربح وزيادة عائدات المساهمين، هو الهدف الأسمى للشركات الاحتكارية، وبه يتم دعم سلطة الشركات الاحتكارية، ومقابل ذلك تترسّخ اللامساواة وتتفاقم.

ويشرح التقرير كيف تتم زيادة الأرباح وذلك عبر أربع عمليات هي: أولًا: مكافأة الأثرياء "أصحاب المصالح" وليس العاملات/العمال. وثانيًا: التهرّب الضريبي، وفي هذا المقام استفاض تقرير أوكسفام لسنة 2023 المُعنوَن "البقاء للأغنى". وثالثًا: خصخصة الخدمات العامة. ورابعًا: الدفع بانهيار المناخ.

وقد ساهم في انقسام عالمنا إلى عالمين (عالم القلة المتيسّرة، وعالم الكثرة المتعسّرة)؛ تسليم حكومات العالم السلطة (عمليًا) إلى الشركات الاحتكارية، كما رصد التقرير، ومن ثم تحوّل الدول إلى أسواق مفتوحة. هكذا باتت البشرية تعيش ما يمكن أن نطلق عليه "الحقبة الاحتكارية"؛ إذا ما استعرنا مفردات التأريخ الجيولوجي.

وللتدليل المادي على ما سبق، تشير الدراسات والتقارير الدولية المعتبرة إلى أنه "مقابل كل 100 دولار من الثروة التي تراكمت في السنوات العشر الماضية، ذهب 45 دولارًا إلى أغنى 1 بالمئة في العالم، وما يزيد على الدولار قليلًا إلى أفقر 50 بالمئة من البشر، ومن ثم اكتسب أعلى 1 بالمئة من البشر ثروة تفوق بـ74 ضعفًا ما كسبه نصف البشرية الأفقر في العقد الأخير".

نادى التيار النقدي من نخبة دافوس بنظام ضريبي صارم على الفائقي الثراء حتى يمكن علاج ما أصاب الكوكب من اختلالات

ولمواجهة تداعيات "الحقبة الاحتكارية"، اتفق كثيرون ممن حضروا دافوس، كذلك تقرير أوكسفام، على ضرورة المواجهة الجذرية للأسباب التي أدت إلى تحوّل النظام الاقتصادي العالمي إلى آلية احتكارية في يد الأثرياء تنتج الربح للقلة الثروية والمعاناة للأكثرية الفقيرة من مواطني الكوكب، - يُشار هنا إلى أنّ 1% من العالم أو من تصفهم أوكسفام بـ"السوبر أثرياء" قد راكموا 63% من الثروة التي تم تدفقها في سنتَيّ الجائحة، تقدّر بـ26 تريليون دولار، في مقابل ذلك تشارك الباقون الـ99% في 37% من الثروة المتدفقة -. وعليه نادى التيار النقدي من نخبة دافوس بأنه لا مفر من تطبيق فوري لنظام ضريبي صارم على الفائقي الثراء Ultra-rich؛ من يملكون ثروة مفرطة Extreme Wealth؛ حتى يمكن بناء بنية اقتصادية جديدة بديلة أكثر عدلًا وإنصافًا، وعلاج ما أصاب الكوكب من اختلالات.

وتؤكد خاتمة تقرير أوكسفام بأنّ هناك "مساحة للأمل"، عبر مجموعة من الأمثلة العملية للخروج من الحقبة الاحتكارية التي تديرها شركة تنتج اللامساواة، وأنّ هناك إمكانية لتصحيح التفاوتات في الدخل، وتصويب الآثار السلبية للاحتكارات السوقية وما ترتب على ذلك من تباطؤ للنمو، وتزايد مطرد للمديونية العامة، وتقليل العوائد المتوقعة الابتكارية والإنتاجية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن