اغتيال الساعدي إذن، شكّل ضربة أمريكية قويّة ورسالة ترهيب وتهديد لكل فصائل "المقاومة الإسلامية في العراق" التي تناوبت على قصف القواعد الأمريكية بهدف الانتصار للمقاومة الفلسطينية في غزّة، وقبلها بهدف الضغط لإجبار "الإحتلال الأمريكي" على الانسحاب من العراق، والذي لطالما حمل البصمة الصوتية لساسة إيران وجنرالات "الحرس الثوري".
وفيما ترى "الفصائل" بالقوات الأمريكية، احتلالًا، تراها حكومة السوداني وقوى سياسية شيعية وازنة "وجودًا شرعيًا" استُقدم بهدف مساعدة الحكومة في القضاء على "داعش"، وزاد من شرعيته توقيع مذكرات تحالف أمنية من بينها تدريب وتسليح الجيش العراقي. لكنّ استهداف الأمريكيين المتكرّر بالاغتيال والقصف لمقرّات "رسمية" ضاعف من الأصوات الحكومية والبرلمانية المطالبة بإنهاء الوجود أو الاحتلال الأمريكي، سيّما بعد تكشير الأمريكيين عن أنيابهم وإطاحتهم وساطة السوداني القائمة على توقف الفصائل عن قصف القواعد الأمريكية، مقابل توقف الأمريكيين عن تنفيذ عملياتهم الإنتقامية ضد الفصائل، ما دفع بالسوداني لإعادة تفعيل الاتصالات السياسية مع الأمريكيين بهدف "إنهاء مهمة "التحالف" الذي تحوّل إلى عامل عدم استقرار للعراق". ومقابل التزام بعض "الفصائل" من زاوية عدم إحراج الحكومة، واصلت فصائل أخرى مثل "حركة النجباء" (التي اغتالت القوات الأمريكية أحد قادتها "أبو تقوى السعيدي") استهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
حكّام العراق الجديد و"فصائل المقاومة" يحملون في رقبتهم دَيْنًا أبويًا مزدوجًا لإيران والولايات المتحدة
والحقيقة أنّ إعلان "كتائب حزب الله" تعليق استهداف القواعد الامريكية في سوريا والعراق، كان أشبه بتفجير قنبلة منزوعة الصواعق، سيّما وأنّه أحدث هلعًا أمنيًا وسياسيًا غير مسبوق بين مراجع ومكوّنات النظام السياسي العراقي من بغداد والنجف إلى طهران. هلع، ضاعفه نأي إيران بنفسها عن حادثة "البرج 22" في الأردن، وفاقمه إجلاء طهران لجنرالات "الحرس الثوري" ومستشاريه من سوريا، وإعلانها عبر سفيرها في الأمم المتحدة عن "عدم وجود قوات عسكرية إيرانية في العراق"، وبلسان رئيسها ووزير خارجيتها عبّرت طهران عن شدّة نأيها بنفسها بالقول إنها ستردّ على أي إعتداء "يطاول الجغرافيا الإيرانية"، ما أشعر الفصائل العراقية الموالية لها برفع الغطاء عنهم، وكأنهم تُركوا لمصيرهم، لتفعل بهم أمريكا ما تشاء، أينما تشاء، وساعة تشاء.
من خلال هذه المشهدية، وجد العراق نفسه أشبه بامرأة عُقد قرانها على ذكرين لدى "مأذون واحد" في آن واحد، سيّما وأنّ حكّام العراق الجديد وضمنًا وخصوصًا "فصائل المقاومة" هم نتيجة هذا الزواج، ولهذا يحملون في رقبتهم دَيْنًا أبويًا مزدوجًا:
الأوّل، لإيران التي آوتهم واحتضنتهم زمن معارضتهم للرئيس الراحل صدّام حسين، ثم دفعتهم لأحضان الولايات المتحدة ليكونوا أداتها في اليوم التالي لسقوط بغداد.
الثاني، هو للولايات المتحدة التي أجلستهم على كرسي المنطقة الخضراء، بعدما استخدمتهم وغيرهم كجسر برّي خلال غزوها واحتلالها للعراق والإطاحة بنظام صدّام حسين.
وهنا يتبدّى حجم التعقيد والتشابك بين الولاءات والمصالح السياسية والدينوغرافية الناتجة عن "زيجة مزدوجة" في لحظة سياسية تشي وكأنّ مدّة "عقد التخادم" بين الولايات المتحدة وإيران الذي أنتج نظامًا إقليميًا تسيّدته طهران، فأنجب حكام العراق الجدد المتناسلين منذ عام 2003، قد أوشكت على الانتهاء. وهنا يتجحّظ التمايز داخل فصائل "الحشد الشعبي" الذي تمّ تشريعه ودسترته ووضعه بإمرة رئيس الحكومة بوصفه القائد العام للقوات المسلّحة العراقية.
"جيوش إيران الستّة" أسّسها قاسم سليماني بهدف الدفاع عن إيران وليس دفاع إيران عنها
فحين تُستَهدف القواعد الأمريكية بالمُسيّرات المفخّخة والصواريخ المجنّحة تتبنّى "المقاومة الإسلامية في العراق" العمليات. وحين تَستهدف القوات الأمريكية "الفصائل" تثور ثائرتها وتقول الحكومة "هذا استهداف للحشد الشعبي وهو جزء من القوات المسلّحة الرسمية"، وهنا لا حاجة للأمريكيين في سؤال شيّاع السوداني عمّا إذا كان بصفته قائدًا للقوات المسلحة أعطى الأوامر لفصائل "الحشد" بضرب القواعد الأمريكية.
وكما أنّ "الحشد الشعبي"، وخصوصًا الفصائل الولائية، هم استثمار إيران الحقيقي في العراق، وجزء من "جيوش إيران الستّة" التي تضم أيضًا "حزب الله" و"الحوثيين" و"جيش الدفاع الشعبي السوري" وحركتي "حماس" و"الجهاد" الفلسطينيتين والذين أسّسهم قاسم سليماني بهدف الدفاع عن إيران وليس دفاع إيران عنهم. ثمّة من يعتقد أنّ الجيش العراقي الذي أعادت القوات الأمريكية هيكلته وتأهيله وتدريبه وتسليحه هو استثمار الولايات المتحدة الاستراتيجي في العراق. وهنا يطرح السؤال هل أنّ إنهاء عقد التخادم بين الولايات المتحدة وإيران إذا ما حصل سيعني تصادمًا بين "الحشد الشعبي" والجيش العراقي، كما يتصوّر أو يروّج ويرغب البعض أيضًا لدور الجيش اللبناني في مواجهة افتراضية مع "حزب الله"!.
أغلب الظنّ أنّ "كتائب حزب الله" بعد اغتيال الرجل الثاني فيها، ستغادر مربع "المقاومة السلبية" وتعود لاستهداف القواعد الأمريكية، ما يعني أنّ العراق في ضوء تمنّع جو بايدن عن استهداف إيران، سيكون مسرحًا لمواجهة قاسية بين الأمريكيين وفصائل المقاومة الإسلامية نيابةً عن إيران، ما سيدفع الأمريكيين الى إعادة رسم خطوط وتضاريس النفوذ في الإقليم انطلاقًا من نتائج العدوان على غزّة، بهدف تصفير قوّة أذرع إيران في العراق وعبره، تمهيدًا لدفعها إلى داخل حدودها، علّ إدارة بايدن تضمن مسارًا غير مفخّخ للتطبيع الذي تُكثر الكلام عنه بين "إسرائيل" والسعودية!
وبالكلام عن النفوذ الإقليمي، لم يخطر في بال إيران، في لحظة تخصيبها لقوّتها قصفًا صاروخيًا بالستيًا لمواقع خصومها من إدلب إلى أربيل وباكستان، بهدف إجراء مقاصّة لتثبيت نفوذها الإقليمي، لم يخطر لها أن تتلقى صفعة مدوية من باكستان، فصفعة الجيش الباكستاني لإيران، بدت أشبه بشطب كبير في وجه طهران التي سرعان ما بلعت الضربة الباكستانية بطريقة مُهينة لغطرسة القوة التي حاولت تثبيت معادلاتها، فتنصّلت منها بلسان وزير خارجيتها الذي أبلغ نظيره الباكستاني أنّ "الحكومة لم تعلم بالضربات التي نفّذها الحرس الثوري على الجارة باكستان"!.
العراق منذ 2003 منزوع السيادة تتغوّل فيه وعبره المشاريع الإقليمية والدولية في ظل غياب "المشروع العربي"
عند هذا الحدّ يمكن القول إنّ استعراض القوة الذي أرادته طهران قد انكسر في باكستان، وتصدّع في العراق لكن ليس بعد احتجاج حكومة أربيل، وإنّما بعد احتجاج حكومة بغداد ورئيسها شيّاع السوداني لدى الأمم المتحدة على اعتداء إيران على السيادة العراقية التي اعتدت عليها أيضًا القوات الأمريكية، وقبلها القوات التركية وهي تقصف مواقع عراقية تضم "حزب العمّال" الكردستاني.
منذ نكبة فلسطين ونكبات العرب متناسلة،. لكن نكبة العراق، هي نكبة العرب التي لم نزل نعيش تداعياتها منذ 9 نيسان 2003 فجعلت العراق بلدًا منزوع السيادة، تتغوّل فيه وعبره المشاريع الإقليمية والدولية، في ظل غياب صارخ لـ"المشروع العربي".
(خاص "عروبة 22")