بصمات

المدن العربية.. بين الكوسموبوليتيّة والحرب!

المدن العربية في زمن التحوّلات الحزينة، وسط هذه الفوضى التي تتسبّب بدمار المدن التاريخية والأرض والبحر والمساحات، بدل المغامرة في عالم جديد من العراقة والاستدامة. كانت مدنًا مسرحًا للخيال والتاريخ والفن والثقافة والتراث، نابضة بالحياة والناس وبالصفحات الفريدة والخالدة بتلك الجاذبية الساحرة والجميلة، تستقبل الحياة في عالم شاسع يصعب حصره، واليوم هي في مجرى أحداث ونزاعات وحروب ومجازر وقتلى وهجرات ودمار في فلسطين والعراق واليمن وليبيا والسودان والصومال وسوريا ولبنان. تاريخ للدمار من نوع آخر.

المدن العربية.. بين الكوسموبوليتيّة والحرب!

لقد تعرّضت عبر التاريخ مدن عربية للتدمير والخراب من جراء الحروب والاحتلال والغزوات، وواجهت مؤخرًا مدن عربية عديدة تحديات جسيمة ناجمة عن اعتداءات خارجية أو حروب أهلية عطّلت ذاكرتها، وشكّلت تهديدًا مباشرًا لهوياتها التاريخية في حوارات آلهة الحرب والمصير والمجتمعات المحلية المغلقة.

كان من الممكن، أن تنمو العديد من المدن العربية في مجتمعات اليوم، في عصر يقين، وليس في محيط من الشك، إزاء نشأة مجتمعات تقوم فيها الصلة بصورة غريبة على تمزيق نفسها.

تبتعد الشعوب عن روحها وجذورها ووجدانها والتاريخ والحيوية

كأنّ المدينة العربية يُعاد تشكيلها بصورة كاملة على منطق التدمير الذاتي، وبقوة "الأبارتيد" التمييزي الإسرائيلي القائم في فلسطين، وانتشاره في المجتمعات العربية المضطربة، واحدة من تجاوزات القرن الواحد والعشرين، بوسائل الحرب والاستبداد الصناعي الاستعماري الجديد، وبطبعة مستقبلية من حرب الجريمة الكاملة.

اليوم نشهد على " نبوءة" كلوفيس مقصود في التسعينات، من أنّ إسرائيل تتحوّل أداةً فعلية وفاعلة في عالم قديم لتدمير العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى، ومن التراجع الكبير والعنف الصريح والخبث في لغة اسرائيل، فتبتعد الشعوب عن روحها وجذورها ووجدانها والتاريخ والحيوية، ويصير الانتقال من المساحات المضيئة إلى الزوايا المعتمة.

المدينة عالم واسع لا يحدّ، بل هي مجموعة من العوالم التي لا يمكن حصرها، كما أنّ الموضوعات التي ترتبط بها لا تُعدّ ولا تحصى ولا نرى منها إلا صورة الدخان، وما أدراك ما وراء الدخان.

اختارت أخيرًا مؤسسة الفكر العربي في (مرحلة من الراحة)، أن تصدر كتاب أفق بعنوان " "المدينة العلابيّة بين العراقة والاستدامة" نظرًا إلى ما تُمثّله المدن العربية من تراث فريد تنبغي حمايته، ونظرًا إلى ما تنشده المؤسسة، أن تنخرط في فضاءاتها ومساراتها والتحديات التي تواجهها وتوجهاتها المستقبلية ومسوّغ ديمومتها، فضلًا عن دواعي عمرانها وتطوّرها ورقيّها بين التنوّع والوحدة والتضامن والمشاركة. ولكن أيضًا من خلال الحوار الديمقراطي وممارسة الجميع المواطنة في مدن تاريخية ذات خصوصيّة بين ائتلاف الواقعي بالخيّال وجراح التاريخي، من القدس وأسوراها إلى مراكش والقيروان، باليرمو، الاسكندرية، بورسعيد، الدار البيضاء، بيروت، حلب.. إلى المدن الذكيّة الحديثة في الإمارات والمملكة العربية السعودية.

شيئان لا ينساهما المرء: وجه أمّه ووجه مدينته

اليوم الخسائر فادحة بالفعل، وتكسر النزاعات الروح الشاملة للمدينة والتنمية المستدامة، التي تأخذ في اعتباراتها التفاعلات بين المواطنة والاقتصاد، ومستوى الموارد والبيئة العالمية، وإعادة تشكيل مدينة من النسيج الحضري. والحقيقة أنّ النزاعات المعاصرة تعود بجذورها إلى وجود إسرائيل، وقوى شبه عسكرية مكلّفة "حراسة الأرض"، هذه القوى التي تصير، شيئًا فشيئًا، جيوشًا لا سيطرة عليها، في وقت يحتاج العالم إلى سياسة عالمية للمدينة كأولوية. ينبغي أن تكون المدينة قادرة على تقديم مشروع حياة ومأوى (يهجره 40 مليونًا في الشرق الأوسط)، أن تعود مدينة على كل المستويات، الضمان القانوني لكل الناس والحماية ضد التمييز، ويدرك الجميع المدى الهائل للثورة الحضرية الجارية والعلاقة بين الإيكولوجيا والديمقراطية.

المدينة، بيئة حياة مفتوحة تعاني من العزل المكاني والاجتماعي، ويتم استئصالها وتدميرها تدريجيًا، كي لا تكون مدينة إنسانية. يقول الشاعر التركي ناظم حكمت "هناك شيئان لا ينساهما المرء إلا عندما يموت، وجه أمّه ووجه مدينته". المدينة ليست مجرد خليط من الناس والأسواق والمباني والتقنيات والمنتجين والمستهلكين والمحرومين. المدينة هي مكان لتهذيب المستقبل وخدمة الإنسان.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن