اقتصاد ومال

من أجل المستقبل.. فلنتكامل!

بعيدًا عن أية مقدّمات - رغم أهميتها في كثير من الأحيان – أعتقد اعتقادًا راسخًا أنّ مستقبلنا كأمّة عربية، أو كعرب فرادى مبعثرين، إنما يكمن في تضامننا وتكاملنا. رغم كل الظروف القاهرة التي يمرّ بها العالم ووطننا العربي، ورغم الوضع الحالي المحبط الذي يجثم فوق صدور الكثير من أقطارنا العربية، ورغم الدعاوى الممنهجة (عن قصد وتآمر أو عن جهل وحسن نية) لليأس والهزيمة والاستسلام التي تعج بها أبواق وسائل الإعلام المختلفة ووسائل "التفارق" الاجتماعي، فإننى أؤمن أنّ سبيل الخروج الآمن من كل ذلك هو سبيل التقارب والاصطفاف والتآزر بين كافة ربوع أمّتنا العربية.

من أجل المستقبل.. فلنتكامل!

الإعتقاد بحتمية التكامل العربي لا ينطلق من مجرد عاطفة جيّاشة لمن هو فى عمري ولا يزال هائمًا فى رومانسيات "الزمن الجميل" من خمسينات وستينات القرن الماضي وأغاني محمد سلمان وعبد الحليم (خاصة أغنية "الوطن الأكبر" وأغنية "لبّيك يا علم العروبة")، ولا من مجرّد الإيمان الراسخ المعجون بالهوية والقومية العروبية، وإنما يتأسّس هذا الاعتقاد على المصلحة والقناعة العلمية الصلبة المدعّمة بأدلة موثّقة كما سنحاول أن نثبت ذلك لاحقًا ضمن إطار سلسلة من المقالات حول منافع الاقتصاد الكلّي العربي.

نجاح وصعود الأمم لا يأتي مصادفة وإنما يستلزم وعيًا عالِمًا وتخطيطًا علميًا مدروسًا

بالطبع سيتلقى البعض هذا الكلام بتهكّم وهو يستعرض ذلك التردي المتواصل فى الواقع العربي المعاصر، خاصة على النحو الذي عبّرت عنه ردود الأفعال حيال الدراما الغزاوية الفسطينية الجارية أبلغ تعبير. وهنا أبادر بالقول إنّ دراسة التاريخ علّمتنا أنّ عمر الأمم لا يُحسب بعدة أيام ولا بعدة سنين ولا حتى بعدة عقود، وأنّ تاريخ البشرية – كما يعلم الجميع - حافل بالقصص الواقعية الممتعة (والموجعة أحيانًا) لصعود وهبوط أعظم الإمبراطوريات على امتداد عقود طويلة. لذا يجب ألا تخدعنا ولا تحبطنا هذه اللقطات الموجعة للواقع العربي المعاصر مهما كانت قسوتها وأبعادها. لقد علّمنا التاريخ أيضًا أنّ نجاح وصعود الجماعات والأمم لا يأتي مصادفة وإنما يستلزم وعيًا عالِمًا ونيّة وطنية مخلصة وتخطيطًا علميًا مدروسًا ونظرة متفائلة للمستقبل وإيمانًا بالله وبتوفيقه وإرادة تنفيذية جادة صارمة. عندئذ تأتي بشائر النجاح رويدًا رويدًا وتتسع دوائره وتعمّ نتائجه.

إنّ إيماننا بأهمية تكاملنا العربي وبثقتنا بأنفسنا وبقدرتنا على تحقيق هذا التكامل يتعيّن ألا تنال منها قيد انملة لا مآسي الماضي ولا مبكيات الحاضر ولا مخاوف المستقبل. هُم يعلمون، كما نعلم نحن، أنّ البقاء للأقوى، وأنّ قوّتنا تكمن في تضامننا وتكاملنا، لذا كان حرصهم وعملهم الدائم قديمًا وحديثًا على الحيلولة دون هذا التضامن والتكامل أو إفشاله وإجهاضه، أو على الأقل احتواؤه إن لاحت بوادره على استحياء هنا أو هناك .

كل ذلك، إنما يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك مدى ثقلنا وأهميتنا وحجم قوتنا الكامنة التى احتالوا بكل الوسائل على إضعافها وتشتيتها واستغلالها واستنزافها في الماضي والحاضر بكل الوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة. وبالقطع سيستمر السيناريو ذاته فى المستقبل وستتفاقم مآسيه إن لم نتصدّ له بوعي وصبر وحصافة وإصرار وعزيمة لا تلين وفى وقفة رجل واحد، وأمّة واحدة .

فلنتقدّم، أبناء العرب، دون هيبة أو تردّد ولنضم القلوب والعقول والأيادي، فجميعنا لحالنا متألمون، وبوحدتنا مؤمنون، ولقوّتنا مدركون.. وحتى لا يظن البعض أننا نقتات ونتصبّر بالكلام الأجوف والشعارات الحماسية الرنانة أستسمحكم أن نمضي معًا فى رحلة قصيرة لنستعرض فى لمحة سريعة حجم ما نملكه من إمكانات تؤهلنا، إذا ما رشد وحسن استغلالها، إلى تحقيق قفزات غير مسبوقة وطفرات تنموية مستدامة شاملة وعادلة تعطي للعالم أجمع نموذجًا جديدًا متفردًا عنوانه: النموذج العربي.

إنّ إدراكنا لحجم إمكاناتنا الكامنة، إنما يتأكد فى البداية بالنظر إلى هذا الحجم الهائل للخسائر (بتريليونات الدولارات) التي مُنيت بها - ولا تزال - أمّتنا العربية على الاقل خلال القرنين الماضيين من أوجه عدة، من بينها:

١- الخسائر الناجمة عن الاحتلال والاستغلال الاستعماري بكل مثالبه .

٢- الخسائر الناجمة عن المسلسل الهزلي للتحارب المستمر في العديد من المواقع.

٣- الخسائر الناجمة عن التدوير غير الرشيد للعوائد البترولية العربية.

٤- الخسائر الناجمة عن الإنفاق غير الرشيد على التسليح .

٥- الخسائر الناجمة عن استدراجنا للغرق فى أنماط استهلاكية غير رشيدة .

إن أية دراسة تحاول إجراء حصر أولي لحجم هذه الخسائر (أو لجزء منها على الأقل) من شأنها أن توضح لنا الفرص التنموية اللانهائية التي ضاعت على أمّتنا العربية (ولا تزال تضيع)، والتي كان من شأنها أن تقطع بأمّتنا أشواطًا طويلة فى معراج التقدّم .

التكامل العربي يلعب دورًا تاريخيًا في تحقيق معدلات تنموية متسارعة

ورغم ذلك يجب ألا ننظر للماضي إلا لكي نأخذ منه الدروس والعبر التي تعيننا فى التخطيط والعمل للمستقبل. هذا المستقبل، الذى نراه واعدًا إنما يستند إلى مجموعة من الحقائق سنسرد أهمها فى إيجاز على النحو التالي :

١- موقع جيوسياسي على أعلى درجة من الأهمية من الخليج إلى المحيط وبعمق متواصل أفريقيًا وآسيويًا وأوروبيًا.

٢- رقعة شاسعة من الأراضي والبحار متنوعة الطبيعة والمناخ والموارد .

٣- كتلة سكانية وهيكل ديموغرافي شاب وقوة عاملة ذات تأهيل معقول.

٤- مساحة كبيرة من الأرض القابلة للزراعة (مستزرع منها حاليًا أقل من الثلث) .

٥- بنية تحتية معقولة وتتنامى بسرعة كبيرة.

٦- موارد طبيعية معدنية سخية إلى حد كبير .

٧- القطاعات الإنتاجية السلعية والخدمية التي تتطوّر بسرعة كبيرة .

٨- حجم ناتج محلي إجمالي، ومتوسط دخل فردي معقولين.

٩- سوق متسعة بقوة شرائية معقولة.

١٠- موارد مالية وإمكانات تمويلية ضخمة، فى حوزة الدول وصناديقها السيادية أو بحوزة القطاع الخاص الشاب القوي والذي أثبت وجوده بقوة وحقق نجاحات كبيرة سواء من الأفراد أو المؤسسات .

١١- أسواق نقدية وأسواق رأس مال متقدّمة إلى حد كبير .

١٢- بنوك مركزية قوية بأداء مهني عالٍ .

١٣- الدعم القوي والمتزايد للبحث والتطوير R&D.

١٤- الاهتمام المتزايد بتبني التطورات التكنولوجية الحديثة والتحوّل الرقمي الموسّع .

١٥- سهولة الاستفادة من إنجازات الثورة الصناعية التي تغمر العالم الآن وبصفة خاصة تقنية الذكاء الاصطناعي.

كل ما سبق ما هو إلا غيض من فيض طاقاتنا الكامنة والشاملة لكل عناصر الإنتاج، الأمر الذي ينعش لدينا الأمل في كيفية وإمكانية أن يلعب التكامل العربي دورًا تاريخيًا في تحقيق معدلات تنموية متسارعة تدعمه بشدة التقنيات التكنولوجية الحديثة. وهو ما سنعمل على تظهيره تباعًا من خلال إلقاء الضوء على كل عنصر من العناصر السابقة لنتعرّف على بعض تفاصيله التي تؤهله لكي يلعب دورًا محوريًا في مسيرة التكامل المأمول.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن