بصمات

غزّة والرّابط الاجتماعي العربي الأخير

الرّابط الاجتماعي (الآصرة الاجتماعية)، لا تنفصل في مذهب لسان العرب عن فكرة وعي المجتمعات لذاتها، ولا يندر أن نسمع اليوم متحدّثين يتحدّثون عن "أزمة الرّابط الاجتماعي في العالم العربي"، وسبل "نسّجه وحياكته" بين مجتمعات صارت مبعثرة وغارقة في نزاعات وحروب داخلية وعلاقات ارتباط وارتهان مع الآخرين، والكل يبحث فيها عن تصاريف الحياة وضمانة حماية نفسه.

غزّة والرّابط الاجتماعي العربي الأخير

أزمة ارتباط بالعمق إلى العروبة ظاهرة جديدة باتت تسلّل إلى مجتمعات سيّالة على أهبة التفرقع والتقهقر الحضاري، جراء الاختلاطات والاختلافات الاجتماعية والثقافية. وتبدو اليوم موسومة بمسارات إبعاد أو إقصاء اجتماعي.

لا وجود لمجتمع عربي من دون تضامن اجتماعي بين دوله وأعضائه، والتضامن هو سجيّة مشتركة. وجاء الحدث الفلسطيني في تشكيل آخر، صورة هذا التضامن الاجتماعي العضوي (اميل دوركهايم).

نفذ أخيرًا المركز العربي لدراسة السياسات استطلاعًا في 16 دولة عربية بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو الحرب الاسرائيلية على غزّة. أجري الاستطلاع مع عيّنة ممثّلة حجمها 8000 مستجيب بين 12 ديسمبر/كانون الأول 2023- 5 يناير/كانون الثاني 2024 في كل من موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان واليمن وعُمان وقطر والكويت والسعودية والعراق والأردن ولبنان والضفة الغربية.

عقيدة التضامن يجب أن ترتفع إلى رتبة القيم الأساسية الوجودية لنحو 430 مليون عربي

عكست النتائج إجماعًا بنسبة 92% على التضامن بين مواطني المنطقة العربية مع الشعب الفلسطيني في غزّة، مقابل 1% قالوا إنهم لا يتضامنون مع الشعب الفلسطيني. عبّرت الأكثرية عن تضامنها على الرغم من اختلافات نسبية في وجهات النظر بشأن حركة "حماس". وأفاد 59% من المستجيبين أنهم اصبحوا متأكدين من أنه لا يمكن اقامة سلام مع اسرائيل ككيان محتل وهمجي.

نحن نتساءل منطلقين من التصوّر "الدوركهايمي"، حول الأشكال والصيغ لأزمة الرابط الاجتماعي، لولا شروط الرابط الفلسطيني، وشروط تصاغ بأوضاع ماسوية تتكوّن من دماء وأوجاع الشعب الفلسطيني، بدل توحيد الإرادات والأفراد والجماعات عبر قواعد عربية تكامليّة مشتركة ومساواة وتكافؤ في سؤال الحرية والتنمية. وسؤال التنمية هو سؤال الديمقراطية. ما الذي يفسّر هذه الفردية المتعاظمة الشأن في العلاقات الأساسية في جملة الحالات التي تشهدها غالبية دول عربية تشهد تصدّعات وحالات انفصامية عن مجتمعاتها وعن العالم. وما يدور حول التحّول التاريخي في أوضاع العالم، ويقصر العالم العربي ككل في الاستجابات التاريخية للعلوم الانسانية في مسارات معقدّة.

نلاحظ وقائع في السودان وليبيا والصومال وفي سوريا والعراق واليمن ولبنان، تعبّر بقدر كافٍ عن طبيعة المجتمعات "الرهطيّة" البعيدة عن شروط التغيير الاجتماعي، ووحدة المجتمعات تبدو فيها أضعف حيث تفتيت الفردية (فرانسوا فيليو)، وهو أمر تتطلّبه طبيعة المجتمعات الحديثة على الرغم من عولمة الاقتصاد وانصهار الأسواق في بوتقة واحدة. هذا أمر فظيع من الصعوبات، ومن خطر نشوب أزمات طويلة المدى.

تُشكّل حرب غزّة أطر الاطروحة الثانية في الفكر التضامني، وستكرّس لسنوات الطبيعة الجامعة التي تجذب الانتباه السياسي، إذا أريد لها أن تُسهم في عقيدة التضامن، التي يجب أن ترتفع ليس فقط إلى رتبة الدم المشرك، بل إلى رتبة القيم الأساسية الوجودية لنحو 430 مليون عربي. أي تحويل فكرة التضامن إلى عقيدة مستدامة لمواجهة التحوّلات والمتغيّرات والأوضاع غير المستقرة.

حرب غزّة عززت فكرة المواطنة الاجتماعية عربيًا

هذا الذي تدين به الحضارة العربية الإسلامية، والذين أسهموا في تداخلهم وترابطهم في تقدّم الإنسانية، وباعتناق عقلاني لفكرة العقد الضمني الاجتماعي، الذي يربط الفرد بالمجتمع ككل، ويتأمن ذلك باستمرار التمسّك بالأرض وبالقوانين الخاصة والعامة كليهما، ما يحقق مشاركة، تصير قوة حقيقية ضد أي تسويات تطرح ما بعد الحرب، تؤدي إلى المخاطرة بكل شيء، أحد الأنماط الأكثر تقريرًا في مصير المنطقة.

عززت حرب غزّة فكرة المواطنة الاجتماعية عربيًا، حتى في بلدان العالم الصناعي، ومن حق العربي الاستفادة منها، ويشعر أنه من المنتمين إليها وليس عرضًا، بل مستقبلًا وبناءً، حتى لا يتحوّل الأفراد إلى شيء آخر، أي ذلك التحدي، الذي واجه الدولة الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية. فتكون الدولة العربية إسمًا للكل الذي يساوي بين أجزائه المحتملة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن