تقدير موقف

كيف تُفكّر إيران اليوم؟!

بعد حرب الاثني عشر يومًا مع إسرائيل وأميركا، ووقف إطلاق النار بتدخُلٍ أميركيّ، لا بُدّ أنّ أجهزة الدولة الإيرانية تقوم بمُهمّتيْن: الأولى، إجراء تقديرٍ دقيقٍ لحجم الأضرار المادية التي تسبّبت فيها الحرب، ليس فقط لمواقع البرنامج النووي، ولكن أيضًا للبنية التحتية المدنية والأحياء السكنية المُستهدفة. والثانية، إجراء مُراجعةٍ للعقيدة العسكرية الإيرانية فيما يتعلق بالأسلحة التقليدية والنووية، وعمّا إذا كان ما تمّ التوافق عليه قبل الحرب يصلح للاستمرار مُستقبلًا بعد استخلاص دروس الحرب ودلالاتها.

كيف تُفكّر إيران اليوم؟!

ينطلق هذا الجهد من شعور إيران بقوّة جبهتها الداخلية والتأييد الشعبي للسياسات التي اتّبعها النظام. فقد أظهر الشعب بمُختلف فئاته التفافه حول رموز الوطن والنظام بما في ذلك القوى التي لها انتقادات على بعض السياسات. وتنطلق أيضًا من أنّ الحرب انتهت بإيجاد نظامٍ جديدٍ للردع النسبي المُتبادل، واستطاعت إيران أن تستوعبَ النتائج الوخيمة للضربة الإسرائيلية المُباغتة الأولى في 13 يونيو/حزيران 2025، وأن تُعيد تنظيم صفوف قيادات الجيش والحرس الثوري. ومع الأيام الأخيرة للحرب، شعر الداخل الإسرائيلي بثقل وطأة الصواريخ الإيرانية التي ألحقت أضرارًا جسيمةً بالعديد من المواقع المُستهدفة.

أدركت السُلطات الإيرانية مدى الانكشاف الخارجي للبلاد، ومدى تغلغل المُخابرات الإسرائيلية في الداخل. فتمّ اعتقال أعدادٍ كبيرةٍ تراوحت التقديرات بشأنها ما بين 700 و900 شخص بتهمة الاشتباه في العمالة للموساد. وتمّ إعدام 8 أو 9 مِمَّن تمّت إدانتهم. وأصدر البرلمان قانونًا لزيادة العقوبات على تهمة التجسّس الإلكتروني، ووسّع من نطاق عقوبة الإعدام بشأنها.

لا بُدّ أنّ القيادة الإيرانية تُراجع قُدراتها العسكرية في ضوء سيناريوات المرحلة المقبلة وتُراجع علاقتها بأذرعها

وخلافًا لما توقّعه بعض وسائل الإعلام الأميركية من أنّ الديبلوماسية الإيرانية سوف تُغيّرُ أسلوبها ولهجتها وأهدافها بعد الحرب، فإنّ ذلك لم يحدث. فقد أصدر البرلمان قانونًا بتعليق العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وترتّب على ذلك خروج مُفتشي الوكالة من إيران. واستمرّ وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في التنديد بالعدوان الإسرائيلي - الأميركي على إيران، والتأكيد على تصميم بلاده على الدفاع عن نفسها بكلّ قوة. وصرح مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء إبراهيم جباري، بأنّ "المُستودعات والمُدن الصاروخية التي نمتلكها تحت الأرض هائلة لدرجةٍ أنّنا لم نُظهر بعد غالبيّة قدراتنا الدفاعية وصواريخنا الفعّالة".

وطالب مُستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، الولايات المُتحدة بدفع تعويضات عن الأضرار التي ترتّبت على الهجوم الأميركي. وفي الوقت نفسه، أبدت إيران مرونةً ديبلوماسيةً، وصرّح رئيس الجمهورية بأنّ طهران لا ترى عائقًا من العودة إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي، وأعلن الرئيس الأميركي أنّ هذه المباحثات قد تبدأ في مدينة أوسلو هذا الأسبوع.

من الأرجح أنّ هناك في القيادة العسكرية مَن يُجادل بأنّ ضمان أمن إيران يكمُن في تسليح برنامجها النووي

على المُستوى العسكري، لا بُدّ أنّ القيادة الإيرانية تُراجع قُدراتها العسكرية عمومًا التي تشمل مخزونها من الصواريخ والطائرات المُسيّرة، والدور الذي يُمكن أن تقوم به في ضوء السيناريوات المُختلفة للمرحلة المقبلة. وهُناك أيضًا مُراجعةٌ لعلاقة إيران بأذرعها في المنطقة. وعمّا إذا كان سوف يكون لها دور. لا بدّ أنّها تُناقِش أيضًا موضوع احتمال تسليح برنامجها النووي، والذي كان قد تردّد أنّها اتخذته في عام 2002، فتدخّل المُرشد لحسم الموضوع وأصدر فتوى في العام التالي بتحريم إنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة النووية، وعدم تصنيعها لمُعارضة ذلك للجوانب الأخلاقية والدينية في الإسلام.

من الأرجح، أن يكون هُناك في القيادة العسكرية مَن يُجادل بأنّ احتكار إسرائيل للقُنبلة النووية يُمثّل خطرًا وجوديًا على إيران، وأنّ ضمان أمنها يكمُن في تسليح برنامجها النووي، كما هو الوضع بالنسبة لكوريا الشمالية، فامتلاك السلاح النووي حال دون أي هجوم أميركي ضدّها. ومن الأرجح أيضًا أن يكون هناك آخرون يُحذّرون من ذلك، بحكم الرقابة الصارمة من خلال الأقمار الصناعية وأنشطة التجسّس لأميركا وإسرائيل على تحرّكات إيران العسكرية، وأنّ اتخاذ مثل هذا القرار يُعرّض إيران لضرباتٍ عسكرية.

الأرجح أنّ ما تصل إليه أجهزة الدولة الإيرانية من خلاصات لن يجد كُلّه طريقه إلى العلن

تُدرك إيران أيضًا مواقف الدول العربية التي انتقدت قيامها بالهجوم على قاعدة "العديد" في قطر، واعتبرتها انتهاكًا لسيادتها وسلامة أراضيها، فأعرب الرئيس الإيراني في 24 يونيو/حزيران عن أسفه لما حدث، مُؤكدًا "أنّ هذا الهجوم لا يمثّل تهديدًا لدولة قطر... التي ستظلّ دولة جوار مسلمة وشقيقة"، مُشيرًا إلى استعداد بلاده لفتح صفحةٍ جديدةٍ مع دول مجلس التعاون الخليجي، والسعي لإقامة علاقاتٍ ودّيةٍ قوامها احترام سيادة الدول الأُخرى ومبدأ حُسن الجوار.

هذا بعض ممّا يُمكن أن تكون أجهزة الدولة الإيرانية تفكر فيه وتُناقش احتمالاته في صمتٍ وبكُلّ سريّة. والأرجح أنّ ما تصل إليه من خلاصاتٍ لن يجد كُلّه طريقه إلى العلن، وأنّه رُبّما تختلف بعض التصريحات الإعلامية عن حقيقة ما تمّ التوصّل إليه، وهذا أمر طبيعي في قضايا الأمن القومي لدى كُل الدول.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن